جيرار تروبو ونشأة النحو العربي - عمر حسن القِيَّام / جامعة الإسراء - الأردن
صفحة 1 من اصل 1
جيرار تروبو ونشأة النحو العربي - عمر حسن القِيَّام / جامعة الإسراء - الأردن
[size=18]جيرار تروبو ونشأة النحو العربي - عمر حسن القِيَّام / جامعة الإسراء - الأردن
ربما كانت المناظرةُ الشهيرة بين أبي سعيد السيرافي (ت 368هـ) وبين مَتّى بن يونس القُنَّائي (ت 328هـ) ذات دلالةٍ واضحةٍ على الشعورِ العميقِ بأصالةِ النحوِ العربي، وكَوْنهِ عِلْماً عربياً مَحْضاً تبلورت بِنْيَتُه الأساسية في سياقِ التطوُّرِ الطبيعي للثقافة العربية، فقد استطال السيرافيُّ على خَصْمِه بالحُجَّةِ البالغة، وبَيَّن له أنَّ دعوى أنَّ المنطقَ آلةٌ من آلاتِ الكلام يُعرفُ بها صحيح الكلامِ من سقيمه، وفاسدُ المعنى من صالحه، هي دعوى لا تثبتُ على التحقيق؛ لأنَّ صحيحَ الكلامِ من سقيمةِ يُعرَفُ بالنظمِ المألوف والإعراب المعروف إذا كُنّا نتكلَّم بالعربيةِ، وفاسدَ المعنى من صالحهِ يُعرَفُ بالعقلِ إذا كُنَّا نبْحَثُ بالعقل(1).
ويبدو أنَّ هذا الإحساسَ بأصالةِ النحوِ العربي قد ظَلَّ صامداً خلالَ المسيرة الطويلة لهذا العلم، ولم تظهر بوادرُ التشكيك في أصالته إلاَّ بعد قيام المؤسسة الاستشراقية بطرح بعضِ الأسئلةِ حول أصالةِ هذا البناء المُحْكَم للنحو العربي، والتصريح بأنَّ هناك آثاراً يونانية: نحويةً ومنطقية قد أسهمت بشكلٍ ملحوظٍ في بلورةِ التصوُّراتِ المبكِّرة للنحاةِ العرب وهم يُشَيِّدون بناءَ النحو العربي، وكان المستشرق الألمان Mer هو أول من زعم أنَّ المنطق اليوناني قد أثَّر في النحوِ العربي على مستوى المفاهيم والمصطلحات(2)، وأيَّده في هذه النظرة غير واحدٍ من المستشرقين منهم المستشرق الفرنسي هنري فليش، والألماني كارل بروكلمان وغيرهما، وتابَعهم من اللغويين العرب إبراهيم مصطفى وأحمد أمين وإبراهيم بَيُّومي مدكور(3)، وربما كان كتاب المستشرق الهولندي كيس كيرستينغ »عناصر يونانية في الفكر اللغوي العربي «من آخر البحوثِ الاستشراقية في هذا المجال.
من جانب آخر، رفضَ بعضُ الباحثين اللغويين هذه النظرة، وأكَّدوا أصالة النحوِ العربي، ولعلَّ المستشرق الإنكليزي Carter أن يكون من أهم المستشرقين الذي دافعوا عن أصالةِ النحو العربي(4)، وكذا فعل تمّام حسَّان الذي طوَّر الموقفَ القديم لأبي سعيد السيرافي، وخَلَصَ إلى أنَّ وجودَ بعضِ المصطلحات المنطقية في بنية النحوِ العربي ليس دليلاً على تأثير المنطق اليوناني، بل هو من مقتضيات التفكير العقليِّ السديد(5).
في هذا السياق المُحْتَدمِ من النقاش حول أصالةِ النحو العربي تأتي دراسة المستشرق الفرنسي جيرار تروبو لهذه القضية حيث قَدَّم بحثاً علمياً دقيقاً(6) نَهَضَ على منهجيةٍ علمية قائمة على السَّبْرِ والتحليلِ والاستنتاج واستنطاقِ النظام الداخلي للنحو العربي، ثم الموازنة بينه وبين النظام الداخلي للنحوِ اليوناني، ليتوصل بعد ذلك إلى أصالةِ النحوِ العربي على مستوى المفاهيم والمصطلحات والتصوُّرات العقلية لبنية النظام النحوي.
انطلق جيرار تروبو في دراسته هذه من ثلاثِ نواحٍ: الناحية اللسانية، والناحية اللغوية، والناحية التاريخية. فبيَّنَ في الناحية اللسانية: أنَّ هناك اختلافاً جوهرياً بين نظامِ تقسيم الكلام في النحو العربي القائم على الاسم والفعل والحرف، وبين نظيرهِ في النظام النحوي اليوناني القائم على ثمانية أقسام هي: الحرف، المجموع، الرِّباط، الفاصلة، الاسم، الكلمة، الوقعة، القول.
ثم بيَّن أنه ليس لقسم الحروفِ اليوناني نظيرٌ في النحو العربي، لأنَّ سيبوَيْهِ لم يجعل حروفَ الهجاء قسماً مستقلاً في تقسيمه كما فعل أرسطو، وكذلك ليس لقسم المجموع اليوناني قِسْمٌ يقابله في النحوِ العربي، لأنَّ مفهومَ المجموعَ المركَّب من حرفٍ غير مُصَوَّت وحرفٍ مُصَوَّت، مفهومٌ صوتيٌّ يختلف عن مفهوم الحرف الساكن والحرف المتحرِّك الذي نجده عند سيبويه.
أما قسمُ الرباط اليوناني، فهو نظيرٌ لجزءٍ من قسم الحرف العربي، وثَمَّةَ فرقٌ بينهما، فالرباط اليوناني خالٍ من المعنى، لكنَّ الحرف في النحوِ العربي لفظٌ جاءَ لمعنى.
أما قسمُ الفاصلة المشتملُ على آلةِ التعريف والاسم الموصول، فهما في النحو اليوناني لفظانِ خاليانِ من المعنى، وليس لهذا القسم نظيرٌ في النحو العربي، لأنَّ الاسمَ الموصولَ اسمٌ غير تامٍّ يحتاج إلى صلةٍ فهو من الأسماء، كما أنَّ التعريف من الحروف التي جاءَت لمعنى.
نعم، هناك تشابهٌ في مفهوم الاسم بين اليونانِ والعرب، لكنَّ الاسمَ عند أرسطو مثلاً لفظٌ له معنىً يدلُّ على شيء، بَيْدَ أنه عند سيبويهِ لفظٌ يقعُ على الشيء، فهو ذلك الشيء بعيْنِه.
ويقابل لفظُ »الكلمة «اليوناني لفظ »الفعل «العربي، فالكلمةُ اليونانية لفظٌ له معنى يدلُّ على زمان، والفعلُ في العربية: مثالٌ أُخِذَ من لفظِ حَدَثِ الاسم، فيه دليلٌ على الزمان، وثمة فرقٌ بينهما يتجلّى في أنَّ الصيغَة غيرَ المُبَيَّنة مُضَمَّنةٌ في قسمِ الكلمة اليوناني، بَيْدَ أنَّ المصدر مُضَمَّنٌ في قِسْمِ الاسم العربي.
وأخيراً، فإنَّ قِسمَ الوقعةِ اليوناني ليس له نظيرٌ في النحو العربي، لأنَّ مفهومُ الوقعة التي تحدثُ في آخرِ الاسم أو آخرِ الفعلِ مفهومٌ غيرُ موجودٍ في النحو العربي، وكذا قِسمُ القولِ الذي هو في اليونانية مركَّبٌ من ألفاظ، ليس له قسمٌ يقابلهُ في النحو العربي، فاستحال من الناحيةِ اللسانية أن يكون التقسيمُ العربيّ لأجزاءِ الكلامِ منقولاً عن التقسيمِ اليوناني.
ثم تفحَّص تروبو إمكانات التأثير من الناحية اللغوية، وهل يمكن أن يكون النحاة العرب قد اقتبسوا عن النحاةِ اليونان المصطلحاتِ الأربعةَ التالية: الإعراب، والصرف، والتصريف، والحركة؟
لقد بَيَّن تروبو أنَّ مصطلح »الإعراب «في اليونانية هو مصطلح خَطابي، وأنَّ »التَّهْلين»: هو التكلُّم الصحيح على وجه الصناعة، بمراعاةِ بعضِ الأنظمة الداخلية للُّغة، أما الإعرابُ في النحو العربي فهو اصطلاحٌ نحويٌّ يُعنى بالتغيُّرات التي تحدُث في آخر الاسم المتمكّن والفعل المضارع لاسم الفاعل.
أما مصطلح الصرف فهو في اليونانية حالةٌ للاسم يظهَرُ فيها بعضُ الميلِ إلى حالاتٍ أُخرى. كما أن الفعلَ بالنسبة إلى حالته الأصلية التي هي حالة الحاضر له مَيْل إلى حالاتٍ أخرى، وهو ما يُسَمّى بالوَقْعَةِ في النظام النحوي اليوناني.
أما الصرفُ في العربية، فهو إلحاق حرف النون للاسم المتمكّن »التنوين»، لأن هذا الحرف علامة التمكُّن، ففيه دلالةٌ على استقرار الكلمة في قسم الاسم.
أما معنى التصريف فيُستعمل في النظام العربي للدلالة على التغيُّرات التي تحدُث داخلَ بنية الكلمة الواحدة، ولا يُستعمل للدلالة على التغيُّرات التي تحدث في آخرِ الكلمة.
أما الحركة، فإنَّ مفهومَ التحريك في النظام الصوتي العربي لا يتَّفق ومفهومَ التصويتِ في النظام الصوتي اليوناني، فإنَّ أرسطو يقسمُ الحروفَ إلى مُصَوَّتة ونصف مُصَوَّتة وغير مُصَوَّتة، بَيْد أنَّ سيبيويه يقسمُ الحروفَ إلى متحركةٍ وساكنة.
ثم بَيَّن تروبو استحالةَ التأثير من الناحية التاريخية، لأنَّ النحاةَ العربَ لم يكونوا قادرين على التعرُّفِ على النحوِ اليوناني إلاَّ بوساطة النحاةِ السُّريان، وعلى الرغم من وجودِ بعضِ الروابط بين النظامِ النحوي السُّرياني وبين النظام النحويِّ اليوناني إلاَّ أنَّ المصادر التاريخية لا تُشير إلى أدنى صلةٍ بين النحاةِ العرب والنحاةِ السُّريان، لا بل إنَّ بعضَ النُّحاةِ السُّريان، وهو حُنين بن إسحاق صنَّفَ كتاباً في النَّحوِ العربي، كما قام مطران طبرهان بتصنيفِ كتابٍ في النحو استعان فيه بغيرِ قليلٍ من جزئياتِ النحو العربي.
لقد كشف تروبو عن ثراءِ المصطلح النحوي العربي من خلال كتاب سيبويه، وأثبت أنْ لا حاجةَ للاقتباس من الأنظمةِ النحوية الأخرى، وأنَّ النحوي العربي قد نشأ ضمن ارتباطٍ وثيقٍ بعلومِ الفقهِ والحديثِ والتفسير، فهو أعْرَبُ العلوم الإسلامية، وأبعدُها عن التأثيرِ الأجنبي في طَوْرِه الأوَّل.
الهوامش :
• انظر »الإمتاع والمؤانسة «(109:1) لأبي حيَّان التوحيدي حيث احتفظ بالأفكار الجوهرية لهذه المناظرة الباهرة.
• انظر »نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه «جيرار تروبو، مجلة مجمع اللغة الأردني، 1982، ص125.
• المرجع السابق، وانظر »عناصر يونانية في الفكر اللغوي العربي»، كيس كيرستينغ، ترجمة د. محمود كناكري، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط2، 2003م، ص18-20. ولتمام الفائدة انظر: منطق أرسطو والنحو العربي، إبراهيم بيومي مدكور، مجلة مجمع اللغة العربية/القاهرة، 1953، ص338-346.
• نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه: 120.
• الأصول، دراسة استمولوجية لأصول الفكر اللغوي العربي، د. تمّام حسَّان، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1411هـ، ص49-54.
• هي الدراسة المشار إليها سابقاً »نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه». [/size[/color]]
ربما كانت المناظرةُ الشهيرة بين أبي سعيد السيرافي (ت 368هـ) وبين مَتّى بن يونس القُنَّائي (ت 328هـ) ذات دلالةٍ واضحةٍ على الشعورِ العميقِ بأصالةِ النحوِ العربي، وكَوْنهِ عِلْماً عربياً مَحْضاً تبلورت بِنْيَتُه الأساسية في سياقِ التطوُّرِ الطبيعي للثقافة العربية، فقد استطال السيرافيُّ على خَصْمِه بالحُجَّةِ البالغة، وبَيَّن له أنَّ دعوى أنَّ المنطقَ آلةٌ من آلاتِ الكلام يُعرفُ بها صحيح الكلامِ من سقيمه، وفاسدُ المعنى من صالحه، هي دعوى لا تثبتُ على التحقيق؛ لأنَّ صحيحَ الكلامِ من سقيمةِ يُعرَفُ بالنظمِ المألوف والإعراب المعروف إذا كُنّا نتكلَّم بالعربيةِ، وفاسدَ المعنى من صالحهِ يُعرَفُ بالعقلِ إذا كُنَّا نبْحَثُ بالعقل(1).
ويبدو أنَّ هذا الإحساسَ بأصالةِ النحوِ العربي قد ظَلَّ صامداً خلالَ المسيرة الطويلة لهذا العلم، ولم تظهر بوادرُ التشكيك في أصالته إلاَّ بعد قيام المؤسسة الاستشراقية بطرح بعضِ الأسئلةِ حول أصالةِ هذا البناء المُحْكَم للنحو العربي، والتصريح بأنَّ هناك آثاراً يونانية: نحويةً ومنطقية قد أسهمت بشكلٍ ملحوظٍ في بلورةِ التصوُّراتِ المبكِّرة للنحاةِ العرب وهم يُشَيِّدون بناءَ النحو العربي، وكان المستشرق الألمان Mer هو أول من زعم أنَّ المنطق اليوناني قد أثَّر في النحوِ العربي على مستوى المفاهيم والمصطلحات(2)، وأيَّده في هذه النظرة غير واحدٍ من المستشرقين منهم المستشرق الفرنسي هنري فليش، والألماني كارل بروكلمان وغيرهما، وتابَعهم من اللغويين العرب إبراهيم مصطفى وأحمد أمين وإبراهيم بَيُّومي مدكور(3)، وربما كان كتاب المستشرق الهولندي كيس كيرستينغ »عناصر يونانية في الفكر اللغوي العربي «من آخر البحوثِ الاستشراقية في هذا المجال.
من جانب آخر، رفضَ بعضُ الباحثين اللغويين هذه النظرة، وأكَّدوا أصالة النحوِ العربي، ولعلَّ المستشرق الإنكليزي Carter أن يكون من أهم المستشرقين الذي دافعوا عن أصالةِ النحو العربي(4)، وكذا فعل تمّام حسَّان الذي طوَّر الموقفَ القديم لأبي سعيد السيرافي، وخَلَصَ إلى أنَّ وجودَ بعضِ المصطلحات المنطقية في بنية النحوِ العربي ليس دليلاً على تأثير المنطق اليوناني، بل هو من مقتضيات التفكير العقليِّ السديد(5).
في هذا السياق المُحْتَدمِ من النقاش حول أصالةِ النحو العربي تأتي دراسة المستشرق الفرنسي جيرار تروبو لهذه القضية حيث قَدَّم بحثاً علمياً دقيقاً(6) نَهَضَ على منهجيةٍ علمية قائمة على السَّبْرِ والتحليلِ والاستنتاج واستنطاقِ النظام الداخلي للنحو العربي، ثم الموازنة بينه وبين النظام الداخلي للنحوِ اليوناني، ليتوصل بعد ذلك إلى أصالةِ النحوِ العربي على مستوى المفاهيم والمصطلحات والتصوُّرات العقلية لبنية النظام النحوي.
انطلق جيرار تروبو في دراسته هذه من ثلاثِ نواحٍ: الناحية اللسانية، والناحية اللغوية، والناحية التاريخية. فبيَّنَ في الناحية اللسانية: أنَّ هناك اختلافاً جوهرياً بين نظامِ تقسيم الكلام في النحو العربي القائم على الاسم والفعل والحرف، وبين نظيرهِ في النظام النحوي اليوناني القائم على ثمانية أقسام هي: الحرف، المجموع، الرِّباط، الفاصلة، الاسم، الكلمة، الوقعة، القول.
ثم بيَّن أنه ليس لقسم الحروفِ اليوناني نظيرٌ في النحو العربي، لأنَّ سيبوَيْهِ لم يجعل حروفَ الهجاء قسماً مستقلاً في تقسيمه كما فعل أرسطو، وكذلك ليس لقسم المجموع اليوناني قِسْمٌ يقابله في النحوِ العربي، لأنَّ مفهومَ المجموعَ المركَّب من حرفٍ غير مُصَوَّت وحرفٍ مُصَوَّت، مفهومٌ صوتيٌّ يختلف عن مفهوم الحرف الساكن والحرف المتحرِّك الذي نجده عند سيبويه.
أما قسمُ الرباط اليوناني، فهو نظيرٌ لجزءٍ من قسم الحرف العربي، وثَمَّةَ فرقٌ بينهما، فالرباط اليوناني خالٍ من المعنى، لكنَّ الحرف في النحوِ العربي لفظٌ جاءَ لمعنى.
أما قسمُ الفاصلة المشتملُ على آلةِ التعريف والاسم الموصول، فهما في النحو اليوناني لفظانِ خاليانِ من المعنى، وليس لهذا القسم نظيرٌ في النحو العربي، لأنَّ الاسمَ الموصولَ اسمٌ غير تامٍّ يحتاج إلى صلةٍ فهو من الأسماء، كما أنَّ التعريف من الحروف التي جاءَت لمعنى.
نعم، هناك تشابهٌ في مفهوم الاسم بين اليونانِ والعرب، لكنَّ الاسمَ عند أرسطو مثلاً لفظٌ له معنىً يدلُّ على شيء، بَيْدَ أنه عند سيبويهِ لفظٌ يقعُ على الشيء، فهو ذلك الشيء بعيْنِه.
ويقابل لفظُ »الكلمة «اليوناني لفظ »الفعل «العربي، فالكلمةُ اليونانية لفظٌ له معنى يدلُّ على زمان، والفعلُ في العربية: مثالٌ أُخِذَ من لفظِ حَدَثِ الاسم، فيه دليلٌ على الزمان، وثمة فرقٌ بينهما يتجلّى في أنَّ الصيغَة غيرَ المُبَيَّنة مُضَمَّنةٌ في قسمِ الكلمة اليوناني، بَيْدَ أنَّ المصدر مُضَمَّنٌ في قِسْمِ الاسم العربي.
وأخيراً، فإنَّ قِسمَ الوقعةِ اليوناني ليس له نظيرٌ في النحو العربي، لأنَّ مفهومُ الوقعة التي تحدثُ في آخرِ الاسم أو آخرِ الفعلِ مفهومٌ غيرُ موجودٍ في النحو العربي، وكذا قِسمُ القولِ الذي هو في اليونانية مركَّبٌ من ألفاظ، ليس له قسمٌ يقابلهُ في النحو العربي، فاستحال من الناحيةِ اللسانية أن يكون التقسيمُ العربيّ لأجزاءِ الكلامِ منقولاً عن التقسيمِ اليوناني.
ثم تفحَّص تروبو إمكانات التأثير من الناحية اللغوية، وهل يمكن أن يكون النحاة العرب قد اقتبسوا عن النحاةِ اليونان المصطلحاتِ الأربعةَ التالية: الإعراب، والصرف، والتصريف، والحركة؟
لقد بَيَّن تروبو أنَّ مصطلح »الإعراب «في اليونانية هو مصطلح خَطابي، وأنَّ »التَّهْلين»: هو التكلُّم الصحيح على وجه الصناعة، بمراعاةِ بعضِ الأنظمة الداخلية للُّغة، أما الإعرابُ في النحو العربي فهو اصطلاحٌ نحويٌّ يُعنى بالتغيُّرات التي تحدُث في آخر الاسم المتمكّن والفعل المضارع لاسم الفاعل.
أما مصطلح الصرف فهو في اليونانية حالةٌ للاسم يظهَرُ فيها بعضُ الميلِ إلى حالاتٍ أُخرى. كما أن الفعلَ بالنسبة إلى حالته الأصلية التي هي حالة الحاضر له مَيْل إلى حالاتٍ أخرى، وهو ما يُسَمّى بالوَقْعَةِ في النظام النحوي اليوناني.
أما الصرفُ في العربية، فهو إلحاق حرف النون للاسم المتمكّن »التنوين»، لأن هذا الحرف علامة التمكُّن، ففيه دلالةٌ على استقرار الكلمة في قسم الاسم.
أما معنى التصريف فيُستعمل في النظام العربي للدلالة على التغيُّرات التي تحدُث داخلَ بنية الكلمة الواحدة، ولا يُستعمل للدلالة على التغيُّرات التي تحدث في آخرِ الكلمة.
أما الحركة، فإنَّ مفهومَ التحريك في النظام الصوتي العربي لا يتَّفق ومفهومَ التصويتِ في النظام الصوتي اليوناني، فإنَّ أرسطو يقسمُ الحروفَ إلى مُصَوَّتة ونصف مُصَوَّتة وغير مُصَوَّتة، بَيْد أنَّ سيبيويه يقسمُ الحروفَ إلى متحركةٍ وساكنة.
ثم بَيَّن تروبو استحالةَ التأثير من الناحية التاريخية، لأنَّ النحاةَ العربَ لم يكونوا قادرين على التعرُّفِ على النحوِ اليوناني إلاَّ بوساطة النحاةِ السُّريان، وعلى الرغم من وجودِ بعضِ الروابط بين النظامِ النحوي السُّرياني وبين النظام النحويِّ اليوناني إلاَّ أنَّ المصادر التاريخية لا تُشير إلى أدنى صلةٍ بين النحاةِ العرب والنحاةِ السُّريان، لا بل إنَّ بعضَ النُّحاةِ السُّريان، وهو حُنين بن إسحاق صنَّفَ كتاباً في النَّحوِ العربي، كما قام مطران طبرهان بتصنيفِ كتابٍ في النحو استعان فيه بغيرِ قليلٍ من جزئياتِ النحو العربي.
لقد كشف تروبو عن ثراءِ المصطلح النحوي العربي من خلال كتاب سيبويه، وأثبت أنْ لا حاجةَ للاقتباس من الأنظمةِ النحوية الأخرى، وأنَّ النحوي العربي قد نشأ ضمن ارتباطٍ وثيقٍ بعلومِ الفقهِ والحديثِ والتفسير، فهو أعْرَبُ العلوم الإسلامية، وأبعدُها عن التأثيرِ الأجنبي في طَوْرِه الأوَّل.
الهوامش :
• انظر »الإمتاع والمؤانسة «(109:1) لأبي حيَّان التوحيدي حيث احتفظ بالأفكار الجوهرية لهذه المناظرة الباهرة.
• انظر »نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه «جيرار تروبو، مجلة مجمع اللغة الأردني، 1982، ص125.
• المرجع السابق، وانظر »عناصر يونانية في الفكر اللغوي العربي»، كيس كيرستينغ، ترجمة د. محمود كناكري، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط2، 2003م، ص18-20. ولتمام الفائدة انظر: منطق أرسطو والنحو العربي، إبراهيم بيومي مدكور، مجلة مجمع اللغة العربية/القاهرة، 1953، ص338-346.
• نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه: 120.
• الأصول، دراسة استمولوجية لأصول الفكر اللغوي العربي، د. تمّام حسَّان، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1411هـ، ص49-54.
• هي الدراسة المشار إليها سابقاً »نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه». [/size[/color]]
مواضيع مماثلة
» ظرورف نشأة النحو العربي.. وجهة نظر عالم اجتماع
» نشأة علم النحو
» مقدمة تاريخ النحو
» تاريخ النحو سنوات المجستير
» النحو الصرف : مفاهيمهما الأساسية
» نشأة علم النحو
» مقدمة تاريخ النحو
» تاريخ النحو سنوات المجستير
» النحو الصرف : مفاهيمهما الأساسية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى