الطبع والصنعة :المفارقة الاصطلاحية
صفحة 1 من اصل 1
الطبع والصنعة :المفارقة الاصطلاحية
الطبع والصنعة :المفارقة الاصطلاحية
إنّ مصطلح الطبع والصنعة، من المفاهيم النّقدية والبلاغية، التي رافقت عملية الإبداع الشعري، وحاولت تحديد معالمها وضبط أسسها، وأصبح هذا المصطلح وسيلة النقد وغايته، في الحكم على الشعر، من حيث جودته أو رداءته. بذلك فإنّ الطبع والصنعة يشيران معاً إلى المذهب الجمالي في الكتابة ـ علماً أنّ النقد في أوّل نشأته احتضنه الشّعراء والمتذوقون من عامّة النّاس، فلم يتحوّل هذا المفهوم إلى مصطلح نقدي ـ وهذا المذهب يسع الإبداع، بما يتضمنه من قواعد وإجراءات وشروط وأحكام، تعبّر جميعها عن نوعية التذوق والفهم، وفقاً لثقافة النّاقد ومدركات جهازه المعرفي والأدبي، وأثر ذلك كلّه في توجيه القراءة النّقدية. مع الإشارة إلى ذلك التّوهم الذي طبع إحساسات النّقاد باحتواء معرفة الشعر، والقدرة على تحليله ووصفه، في ضوء التصنيف النسبي للشعر والشعراء استناداً إلى هذا التوهم. وهو تصنيف، تنعدم فيه المنهجية والدّقة والتنظيم، لأنّ منطلقه الاحتكام إلى الذوق في تقويم إشكالية الطبع والصنعة، وهي إشكالية، لا تقدم في جوهرها إجابات حاسمة ونهائية، لقضية، ظلت مبهمة، بسبب اتصالها العضوي بالخطاب الشعري في مستوياته المختلفة والمتداخلة.
والالتزام بمصطلح الطبع والصنعة، مردّه إلى أنّ هذه التسمية المكررة والمتداولة، هي التي ارتضاها التراث النقدي والبلاغي، وتواضع عليها، وقوم من خلالها الشعر في شقّيه الشّكلي والدّلالي. وهو تقويم، يفتقر في أحايين كثيرة إلى الضبط العلمي، لعدم خلوّه من أثر العاطفة، في الميل إلى شاعر معيّن، أو إلى نص ما، أو عصر أدبي مخصوص. في حين أنّ المصطلح بطبيعته، لا يولد هكذا، بل إنّه يجنح نحو الدّقة، لأنّه نتاج الفكر والمعرفة والوعي.
وهناك مشكلات نقدية شائكة، أثارها النّقاد القدامى، وقاسوا في أثنائها الشعر الجيّد، الذي يروق ويتمكّن، مثل قضايا اللّفظ والمعنى، السرقات الشعرية، ولغة الشعر، وكيفيات صياغته ونظمه، دلالاته ومرجعياته المختلفة، الصورة الشعرية ومعايير تشكّلها سهولةً وتعقيداً، استجابات المتلقي، سامعاً أم قارئاً.
إنّ هذه القضايا مجتمعة، وما يتفرع عنها من أبحاث أخرى، أخضعها النّقاد في شفاهية الشعر وكتابيته، إلى معيار الطبع والصنعة، فإلى هذا المعيار تنتسب كلّ هذه القضايا، وبه تصدر الأحكام، في تماثلها أو تعارضها وتباينها.
إنّ الطبع والصنعة، يعدّان حقيقة نقدية عرفية، تحوّلت بفعل إخضاع النّصوص إلى المعالجة، إلى رموز استدلالية، أضحى فيهما التناظر المتواري في ثناياهما، دلالياً. فإنّ الشعر بطبيعته ينجذب إلى أمرين محوريين، هما: العادة، وخرق العادة. وأنّ العادي، غالباً ما يفسرّ بأنّه البسيط والواضح. لكنّه يؤكّد التفوق والابتكار في أحكام النّقد الذّوقي، ويمثل قوّة ذات أثر، لأنّه في منطقه، مرجعية الأنموذج والأصل، لمفردات الطبيعة والكون والإنسان. بينما خرق العادة، يمثل خروجاً قصدياً على المألوف، غرضه عدم فاعلية السائد، ممّا يستدعي إلغاءه.
فهل استطاع نقد الطبع والصنعة، أن يستقطب حركات النّص الشّعري ومبدعه ومتلقيه؟ وأن يختزل مسافات القراءة والتّقصي ودروب المعاناة؟ وهل تحكمه رؤية علمية وخبرة ثابتة ومضبوطة؟ وما دلالة هذا المصطلح النّقدي؟ وما صلة ذلك بنشأة الشعر ونمائه وتطوّره؟ وهل للمعتقد بشتى صوره الدّينية والاجتماعية والثقافية والخرافية، أثر في الاختلاف بين الطّبع والصنعة، أو في درجة المشاكلة ببينهما؟
إنّها أسئلة، يحاول هذا البحث أن يترسّم خطاها، بدءاً من الجذور اللغوية للطبع والصنعة في مواصفتها الاصطلاحية، وتجلياتها في الموروث الإبداعي، التي تعين الباحث على استقصاء المفهوم، ووضع معالم الإشكالية، لتثبيت القصد في إطار معرفي ومنهجي، تدعمه فرضيات القراءة والتحليل، والحجج التي لابدّ من إظهارها وضبطها. إنّ مردّ ذلك كلّه، إلى قناعة تؤكّد أنّ الطّبع والصّنعة غير واضحين تمام الوضوح في آراء النّقاد ونقاشاتهم. فهل تجلّى في المعاجم ـ على اختلاف تخصّصاتها ـ الاستخدام المضبوط والمحدّد لمفهومي الطّبع والصّنعة؟ وهل تمكنّت هذه المعاجم، أن تدرك ذلك، بحيث تكون عاملاً أساسياً في فهم الشّعر ومعرفته؟
1 ـ الطّبع/ الفعل المقضي
إنّه لا يمكن البحث في دلالات أيّ مصطلح، إلاّ بالرجوع إلى جميع السياقات المختلفة، التي ورد فيها، والتّركيز على الفروق الدّقيقة بين معنى كلمة وأخرى، فإنّ المصطلح المحور يستدعي لزوماً مصطلحات فرعية، تبين عنه وتعضده، ورصداً لما يفرضه البحث المنهجي، كان لابدّ أن يكون البدء من الأصل الذي هو (الطّبع) في النّشأة والماهية والوجود، ومجمل العوامل التي يتركّب منها ويتميّز.
إنّ للطّبع، على اختلاف صيغه الصرفية، وهيئات تركيبه، دوراً في إنتاج الدّلالة الإبداعية والنّقدية، كما يبرز ذلك في (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)، الذي جاء فيه الجذر اللّغوي لمادة (ط ب ع)، عشر مرّات( )، ومنها: (طَبع، نطبَع، يطبَع، طُبع). وتمثل ذلك قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (النساء: 155). وقوله: أُولَئِكَ الذَّيِنَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ (النحل: 108). إنّ القصد من ذلك، أنّه تعالى قد أزاح عن الكفّار، القدرة على العلم والمعرفة، وكذلك قوله: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (الأعراف: 100). وقوله: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. (الأعراف:101). وقوله: وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. (التوبة: 87).
إنّ الصيغ المشتقة من مادة (ط ب ع) في آيات النّص القرآني، تعني انتقاء القدرة على فعل الشيء، لما أسندت إلى الذّات الإلهية التي ختمت على قلب الكافر، فأصبح لا يفهم، وبالتالي وقع الفعل عقاباً، على من اتبع هواه، وغفل عن ذكر الله والثناء لـه والتسبيح إليه. وقد ورد عند الأشعري، أنّ أهل الإثبات يرون أنّ: "قوّة الكفر طبع"( )، وأنّ بعضهم يذهب إلى حدّ القول: "إنّ الله طبع على قلوب الكافرين أي خلق فيها الكفر"( ).
كما أنّ مادة (ط ب ع) تدّل على المطلق بعلّة، فهي حكم نتيجة إدّعاء وسلوك منحرف، وقد سدّت مسدّ العقاب، ودلالتها دّينية، إذ لا صلة لها بالموهبة والإلهام والتّمكن على قول الشيء وإتقانه.
ولفعل (طبع) في الآيات الكريمة هيئات مختلفة:
الفاعل هو (الله)، أي الاستطاعة قبل الفعل الحاصل، فهو (العقاب) ممثلاً في الختم والغشاوة والسكون، والدّلالة هنا دينية.
إنّ الطّبع من المنظور الدّيني يعني العلامة التي يعرف بها الشيء ويتحدّد. وهي علامة تتصف بالثبات، لا بالتّحوّل، وفي معجم لسان العرب، فإنّ صيغة (ط ب ع) مساوية للعلامة وردف لها، وأنّ معناها يتجّه إلى الخلق كريماً كان أم دنيئاً، على نحو ما يتجلّى ذلك في الأبنية الاشتقاقية التي تشكّل فيها: (الطبْع، الطِبع، الطبَع، الطبائع، الطبيعة، الطباع)، وفي الأبنية الصرفية (طُبِع، طبَع، يُطبَع، تطبّع)( ).
إنّ دلالة هذه المادة، تعني سخف السلوك، كما أنّها تدلّ على الأثر مثل الوسخ الشديد على السيف، أو هي بمنزلة السجية والخليقة ونحوهما، كما في الطبيعة والطباع ـ هذه الدّلالة تقرب الدّلالة النّقدية العامّة للطّبع ـ. ولا فرق في (لسان العرب) بين: الطبع، الطبيعة، الطباع، فإنّها جميعها ترمز إلى: "الخليقة والسّجية التي جبل عليها الإنسان"( ). وهناك صيغة (طابع)، التي تعني الحسن والطبيعة، مثل ما أنشد اللحياني:
له طابِع يجري عليه، وإنّما
تفاضِل ما بين الرجال الطبائع( )
وتأخذ (طبع) معنى الفطرة التي فطر عليها الإنسان، فهي إذن صفة ترتبط بسلوك الإنسان وخلقه: "وطبعَه الله على الأمر يطبَعُه طبْعاً: فطره. وطبَع الله الخلق على الطبائع التي خلقها فأنشأهم عليها وهي خلائقهم يطبعهم طبْعاً: خلقهم، وهي طبيعته التي طُبع عليه وطُبعَها والتي طُبِع( )".
إنّ الفعل هنا واقع على الإنسان، لأنّه يمثل الكلي اللامتناهي، ويدلّ على عدم الإرادة والوعي والاختيار. وفي حديث الرسول : [كلّ الخلال يُطبَع عليها المؤمن إلاَّ الخيانة والكذب أي يخلق عليها"( ).
فالطبع ذو دلالة دينية/ أخلاقية، مرتبطة بالفطرة والنّشأة على الأخلاق الفاضلة. أمّا ما يخالف هذه الصّفة، فلا يصدق عليه مفهوم الطّبع. إنّه هنا مخصوص، وليس عامّاً مشتركاً. ويأخذ الطّبع معنى البدء في عمل الشيء وتشكّله، فهو: "ابتداء صنعة الشيء، تقول طبعت اللبِنَ طَبْعَاً، وطبَع الدّرهم والسيف وغيرهما يطبعهما طبعاً: صاغه"( ). إنّه الختم والعلامة، التي تميّز شيئاً من آخر، دون الإشارة إلى إتقانه. أمّا مادة (تطبع)، فإنّها شدّة الامتلاء "وتطبع النهر الماء: فاض به من جوانبه وتدفّق"( ). وقد وصف النّقاد القدامى طبع الشاعر بأنّه يتدفّق باستمرار، ويتوالى دون انقطاع، ممّا يؤكّد الصّلة الوثقى بين الطبع والماء، هذا الأخير الذي تقوم عليه الحياة وتكسب طاقتها وفعلها. فلا غنى إذن، عن الطبع في قول الشعر وتأليفه والإبداع فيه. ولذلك، فإنّ الطّبع عند ابن السّكيت، هو النّهر في امتلائه، ويمثل لـه بقول الشاعر:
فتولَوا فاترا مشيُهم
كرويا الطّبْع همّت بالوحَلْ( )
فالنّهر سمته الجريان والتّدفق والانسياب، والطبع كلك هو حياة الشعر التي تمدّه بالإبداع والتّفوّق.
والطّبع يجمع على (طباع)، وهو كلّ ما فطر عليها الإنسان: "في مأكله ومشربه وسهولة أخلاقه وحزونتها وعسرها ويسرها وشدّته ورخاوته وبخله وسخائه"( )، بينما (علم الطّباع) في حقل المعرفة العلمية، هو: "علم نفساني موضوعه تحديد الطباع البشرية المختلفة، وتصنيفها من أجل الاستفادة، في التنبؤ بالأقوال والأفعال على سبيل الحيطة"( ). وقد نعت الفرزدق في البيئة العربية، بأنّه غليظ الطّبع شديده، مثلما تكشف ذلك أخبار أشعاره في الهجاء والذّم.
إن مادة (مادة ط ب ع)، إذن، في معجم لسان العرب بصيغها المتعدّدة تشملها صفات، يمكن حصرها فيما يلي: (أ) ليس الطبع فعلاً إنسانياً إرادياً. (ب) يدلّ على العقاب جرّاء سلوك منحرف (ج) يرمز إلى السلوك القويم والانضباط التّام. (د) يعني الفطرة التي جبل عليها الإنسان. (هـ) التلقائية، بغير حاجة إلى قدرة ذاتية. (و) صياغة الشيء وتشكيله في هيئة ما.
وسبق الزمخشري ابنَ منظور في تحديد معاني المادة (ط ب ع)، فهي في صيغها الاشتقاقية المتعدّدة تعني الختم والنّقش والتّدفق والجريان والأخلاق السيّئة أو الممدوحة كالكرم إلاّ أنّ أبا البقاء الكفوي، لا يقول بالترادف بين هذه الكلمات، وهي عنده تختلف من حيث الشمول والتخصيص، يقول: "والطبع أعمّ من الختم، وأخصّ من النّقش"( ).
فالختم يعني النّهائي، والطبع نهائي لا أثر للاجتهاد الكبير فيه، ويفرّق أيضاً بين الطبع والطّبيعة، فالأوّل عام، والثانية مخصوصة. والطبع قوامه الحركة المطلقة، سواء بإرادة، أو بدون إرادة، وهو قوّة النّفس في كشف الأسرار، وقد تكون الطّبيعة كذلك، إلاّ أنّها إرادة النّفس للبدن، تسخيراً لا اختياراً، وهي حركة من دون إرادة( ).
إنّ الزّمخشري لم يشر إلى دلالة الطّبع الإبداعية، إلاَّ في قوله: "وهذا كلام عليه طبائع الفصاحة"( ). وقد عدّ البلاغيون الفصاحة سمة للطبع الموهوب، الذي يتخلص فيه الشاعر من أثر الحضارة، وما قد يتولّد عنها من تكلّف، وفي كلام الزّمخشري، فإنّ الطّبائع هي السمة المميّزة للكلام البليغ السهل، الذي لا يعتوره خلل أو غموض. وكأنّ الطّبائع صفات ثابتة، غير قابلة للتّشوه أو التغيير، أمّا ابن منظور، فلم يتطرق إلى الدّلالة الأدبية أو النّقدية في صيغة (ط ب ع)، إنّما ركّز على السلوك والهيئة، علامتين للإنسان والطّبيعة، وهي أمور انبنى عليها تأسيس النّقاد والبلاغيين، في كلامهم عن الشعر والشّاعر، خارج الدّلالة الاجتماعية، التي تتجلّى في إيراد أبي العلاء المعري لبيت شعري يدلّل فيه على فساد الطّبع، لأنّ الفساد غريزة في البشر:
في أصلنا الزّيغ والفساد
وهذا اللّيل طبعٌ لجنحه الحذر( )
فالطّبع حين يفسد ويختل، يشبه اللّيل في سواده وإظلامه.
ولم يورد الجيّاني ـ على عادة المعجميين ـ المواد الصرفية للصيغة (ط ب ع) بل إنّه أتى بعدد من المترادفات، التي لها دلالات مختلفة للطبع، لكنّها متقاربة ومؤتلفة، وهي: "غريزتي، وخليقتي، وضريبتي، ونحيرتي، وسليقتي، وخيمي، وشيمتي، ونيّتي، وشمائلي، وسجيتي، وجبلّتي، وخلقتي، ودربتي، ونيتي، وعادتي، وشنشنتي، وديدني، واجريّاي"( ). وما يلفت الانتباه في هذا النّص، أنّه جعل الدّربة، دليلاً على الطبع، وصورة من صوره اللاّزمة.
والطّبع معرّض إلى التّشوّه، الذي يفقده نقاءه وأصالته وصحته، هذه الصّحة التي يمكن كشفها من الأحرف المكوّنة له، كما يشير إلى ذلك ابن فارس في قوله: "الطاء والباء والعين أصل صحيح، وهو مثل على نهاية ينتهي إليها الشيء، حتّى يختم عندها"( ). ولكن أبا هلال العسكري نبّه إلى الاختلاف الدّقيق بين الختم والطّبع، الذي يستفيض في شرح معانيه، فهو: "أثر يثبت في المطبوع ويلزمه، فهو يفيد من معنى الثّبات واللّزوم ما لا يفيده الختم..."( )، الذي: "ينبئ عن إتمام الشيء وقطع فعله وعمله..."( )، فأبو هلال العسكري حدّد دلالة الطبع، دون أن يربطه بالممارسة، التي أثبت فيها الشعراء والنّقاد، أنّ الطّبع ليس دائماً ثابتاً، فقد تعترضه عوارض آنية، يجفّ فيها ويجدب.
وإمعاناً في التّوضيح، فإنّ الطبع في المعجم الوسيط، هو: "الخلق ـ والمثال أو الصيغة"( )، بينما يأخذ بعداً مغايراً في اختصاص علم النّفس، إذ هو: "مجموع مظاهر الشعور والسلوك المكتسبة والموروثة التي تميّز فرداً عن آخر"( ).
إنّ هذا التّحديد النّفساني، مؤدّاه، أنّ الطبع استعداد فطري، وأنموذج أصيل للتّمييز والمخالفة، وهو كذلك كنتاج تراكبي بين الفطري والمكتسب. كما أنّ هذا التّحديد يبرز في معنى الطّبيعة، التي هي: "السجية، ـ ومزاج الإنسان المركّب من الأخلاط ـ والقوّة السارية في الأجسام التي بها يصل الجسم إلى كماله الطّبيعي"( ).
فالطبيعة إذن، هي الانتهاء إلى الشيء والوصول إليه، أمّا المطبوع، فإنّه الذي تتوحّد فيه الموهبة والجودة، من غير تكلف( ). إنّ عدم الاتفاق في تبيان ضبط الشيء وتحديده، يبرز هنا بين ابن نباته، الذي عرّف الطّبع بالسّجية، في حين أنّ المعجم الوسيط يطلق السجية على الطبيعة. وفي كتاب التعريفات، فإنّ الطبع يقرب من المفهوم الغيبي الذي تنحسر فيه إرادة الإنسان، بل تتوارى: "الطبع ما يقع على الإنسان بغير إرادة، وقيل: الطبع بالسكون: الجبلّة التي خلق الإنسان عليها"( ). كما يطلق المعجم الوسيط السليقة على الطّبيعة، أي الإفصاح الطّبيعي، دون تعلم أو جهد أو مكابدة، وفي ذلك يقول الشّاعر:
ولستُ بنحوي يلوك لسانَه
ولكن سليقيُّ أقول فأعرب( )
إنّه يفرق بين نمطين من الأداء، أحدهما طبيعي (سليقي)، يصدر بعفوية مطلقة، لا خطأ فيه ولا زلل، والآخر صناعي معياري، يتمّ بوساطة إتقان القواعد. وفرق بين النّطق السّليم، دون قراءة، وهو خصلة فاضلة، ونطق لا يكون صحيحاً إلا بالقراءة والمران، (وهو خصلة مذمومة). والطبع هنا القول على السليقة كلاماً وشعراً وبلاغة تركيب وأداء.
أمّا الطبع فلسفةً، فإنّه: "جملة الصفات الدّائمة التي يختصّ بها فرد دون آخر أو فئة دون أخرى في الأقوال والأفعال"( ). إنّه، هنا، لا يتأثر بالعوامل الخارجية، فهو ثابت، لكنّه مخصوص. وفي الخطاب الشعري، يطلق الطبع على شعر معيّن، وشعراء معيّنين، طبقاً للقصد من معنى الطبع. كما أنّ الطبع مباين للانطباع، الذي يتميّز بالتغيّر، نتاج تأثير العوامل المثيرة وما يتولّد عنها من إحساسات، إنه: "ضرب من الشّعور يجيء ردّ فعل لمؤثر خارجي"( ).
إنّ الطبع هو خلاصة تجربة موقف الإنسان الاجتماعي، من العالم حوله، يظهر ذلك في جميع أنماط سلوكه وتصرفاته، التي تيسّر التعرف عليه وتحديده. كما أنّ الطّبع ليس فطرة، وإنّما هو محصول اجتماعي، ناتج عن أثر عامل السياق العام الذي يتحرّك فيه الإنسان، ويكسب من خلال توافقه صفة المطبوع. إنّ تعليق الطبع بشرط المؤثر الاجتماعي والتّربوي، قد يكون القصد منه التّمييز بين الطّبع والصّنعة، دون الاعتراف بالفطرة والسجية، إنما الإقرار بدينامية الإنسان كذات فاعلة داخل المجتمع. والطبع فطرة، يتعذّر فيه على صاحبه، تقديم نظرة دقيقة وفاحصة عن الحياة بتعقيداتها، التي تحتاج إلى وعي مدرك.
وتذهب مادّة (ط ب ع) إلى العادة، التي إمّا أن تكون صفة ما أو سلوكاً معيّناً يتوارث، أو هي أصل النّشأة والظّهور. أمّا لفظ (التّطبع)، فإنّه يعني فقط الكسب والتحصيل على مثال. بالمقابل تدلّ الطبيعة على حالة شعورية إنسانية قوامها البساطة والسهولة والوضوح. وهي، وإن تكوّنت نتيجة جهل، إلاّ أنّ صفتها النّهائية والرّاسخة، الانسجام التلقائي، الذي يميّز السلوك بشكل عام، ويتجلّى في: "البداوة والعفوية، في ما يأتيه الكائن من تعبير أو تصرف... مع أنّه نتيجة عناء محكم، وصنعة متقنة"( ). إنّ الصّنعة المتقنة، تؤول إلى طبع المبدع وتؤدي إليه، وهكذا يبدأ الشاعر مطبوعاً، وينتهي مطبوعاً، والطّبيعة، هنا، تساعد على التّأليف والكتابة بجهد أقل، لذلك اقترنت عند الجاحظ بالعادة،: "والعادة توأم الطّبيعة"( )، ولا يكون ذلك في منظوره، إلاَّ بالممارسة والتّعهد، اللذين يجعلان العادة مناسبة للطّبيعة.
وورد في المعجم الأدبي أنّ الطّبع عبارة عن صفات ثابتة، تميّز شخصاً من سواه، وهذه الصّفات المميّزة والدّالة، يتشخص فيها الأفراد والجماعات من حيث السلوك والشعور والملامح الذّاتية، بمنأى عن سلطة المجتمع وأثر الذكاء، وفي حقل الإبداع، فإنّ الطبع يبين عن شخصية مستقلّة( ). أمّا الطّبيعة، فإنّها القوّة، التي تدير الوجود بحتمية وقوانين معلومة وضابطة، تنطبع بها ماهية الإنسان ووجوده، وتشير إلى ما هو عفوي وسليقي فيه. وهي تقابل الإرادة الحرّة في تحصيل المعرفة والعلوم. كما أنّ مصطلح (الطّبيعة)، يرمز جمالياً إلى وضع الأشياء في ثباتها، فضلاً عمّا يضفيه عليها المبدع من علامات. والطّبيعة تحرّك أحاسيس الفنّان وتؤثر فيها، فيصفها على نحو ما هي، خلافاً للإبداع، الذي لا يتكيّف وفق نظام الأشياء( ). ويسهب صاحب المعجم الأدبي في شرح صيغة (ط ب ع)، فالطّبيعة هي ما يحكم الكون ويسيّره، بفعل قوّة غير معروفة نظير مسؤولية الإنسان على أفعاله. وهي كذلك العلم المختص بدراسة العالم. والطبيعة ترمز إلى ما يحكم تفكير الإنسان ويوجّهه، وإلى ما يميّزه، فنتخذ معنى العفوية والسّجية، ومن الناحية الجمالية، فإنّ الطّبيعة، هي أصل الأشياء، لا فروعها، وما يثير في الإنسان من عواطف ووجدانات، أو هي أنموذج ثابت، يكشفه الفن، ولا يبتكره. ومن الجانب الأدبي، فإنّ الطّبيعة هي كلّ موضوع متجددّ، يتجلّى في الأنواع الأدبية، يصبغ عليه المبدع حركة وحيوية، بتشخيصه، ليحدث تفاعلاً معه. أمّا الطبيعي صفةً، فهو في الأدبي الشعور النّاتج عن جهد مبذول. بينما الطّبيعية، محاكاة تامّة للطّبيعة، التي أوجدت نفسها بنفسها، كما تعني تقيّد الإنسان بالغرائز، التي أملتها الطّبيعة عليه، مثلما هي تقليد الطّبيعة تقليداً حرفياً( ). هكذا تكون الطّبيعة، ممثلة في الطّبع، بمثابة الكلام العادي، الذي ينطق صاحبه على سجيته. أمّا الإدراك العقلي لخصائص الأشياء، فهو انفلات من القيود الصارمة إلى رحاب ذرى تعبيرية جديدة، وصور مبتدعة، توحي جميعها إلى ما يتطلبه مقتضى التّفكير والتّأمّل، طلباً للتفوّق، ودون تأثير الدّافع الحتمي الطّبيعي المنبثق من عوامل، لا سلطة للآخر عليها. وفي المستوى الإدراكي للمصطلح فإنّ الطبع، يتعارض مع الاكتساب والذّكاء. وهو في الإبداع الصّفة الواضحة دون تأويل. بينما الاستدلال على المعنى المقصود من لفظة (طبيعة)، فهو الخضوع الجبري والتّلقائي للقوانين المكيّفة للوجود البشري، دون أن يتواضعوا عليها سلفاً. إنّها قائمة في الذّهن، متبدية في السلوك. وفعل الاستجابة فيها، يتمّ على نحو آلي. إنّ الطّبيعة ضرورة تتنافر وحرية الإنسان وقابليته على الحركة والامتداد، ولكن هذه الضرورة، ستسوقه حتماً ـ إن توافرت الإرادة ـ إلى الإبداع الذّاتي، لتأكيد التّواصل الفعلي والحضوري للذّات مع الآخر. وعوض مصطلح الطّبع، هناك من يوظف لفظ (الطّبعية) نسبة إليه، وهو مفهوم جديد، يتجلّى في نزعة البداوة والبساطة والعفوية، وإن كان ناتجاً عن جهد وتعب وعمل محكم( ).
أمّا في معجم Rousse، فإنّه يورد تعريفاً للطّبيعة وشرحاً لها، إنّها: "تشكّل مجموع العالم الفيزيائي خارج شخصية الإنسان، وهي أيضاً مجموع القوانين التي تظهر متحكّمة في الأشياء والذّوات، أو هي أنموذج حقيقي، يتجسّد أمام الفنّان كالرسّم، كما أنّ الطّبيعة، تعني عدم الإضافة أو الخلط. والطّبيعي صفةً هو التلقائي... وهو الذي لا يصدر عن فعل الإنسان وعمله، أو هو العادي، وغير المتبدّل. أمّا الطّبيعي اسماً، فهو مجموعة الميولات والطّبائع تميّز شخصاً ما"( ). وهذا التّحديد، لا يخرج من مجمله، عمّا جادت به المعاجم العربية القديمة، إذ يعلن أنّ الطّبع صفة راسخة، وثابتة، وتلقائية، ينفرد بها واحد من الآخرين. والعادة فيه هي أساس تمثله.
إنّ هذه الدّلالات التي تشكّل في ضوئها مصطلح الطّبع، توحي إبداعياً، أنّه منعزل عن وعي الشّاعر،وكأنّه إحساس ناتج عن انفعال عادٍ وردّ فعل فقط، ولكنّه يبقى متضمناً لمعنى العلامة، وكذلك أنّ الموهبة موجودة سلفاً. فليس الشّاعر بحاجة إليه، ولا إلى القدرة. فالطّبع تجربة غير مختارة، سمته العفوية التي تملك كلّ اللّحظات، وبالتالي لا يبدو مجرد ميل إلى شيء من الأشياء، ولكنّه، لا يمكن الاستغناء عنه، فإنّ الفارابي في حديثه عن امتلاك الفرد للسيادة والجاه والسّلطان، يرى أنّ الإنسان لا يكون رئيساً أو إماماً للمدينة الفاضلة، إلاَّ إذا اجتمعت فيه خصال طبع عليها وجبل، تؤهلّه، لأن يسود أو يكون مثالاً يحتذى، ومنها: "أن يكون بالطّبع جيّد الفهم والتّصوّر لكلّ ما يقال له، فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل وعلى حسب الأمر نفسه... ثمّ أن يكون حسن العبارة، يواتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره إبانة تامّة"( ). فإنّ فعل (يواتيه) سمة في طبع تواصله، فضلاً عن حضور البديهة في المنطق، كيفما يكون الوضع والمقام، وذلك يجنّب التّلعثم والتّعقيد. والفارابي، عندما يتحدّث عن علاقة الفرد بالمجتمع، يشير إلى أنّه اجتماعي بالطّبع، أي مطبوع على الاجتماع، مفطور عليه، في ضوء الحاجة والتّعاون، لبلوغ الكمال.
من خلال التصورات والتّحديدات القرآنية والمعجمية السابقة لمادة (ط ب ع)، يظهر بجلاء مبدأ التّباين في ضبط المصطلح، وأنّ الاستدلال على الطّبع، ينطوي على خصال شخص ما، تتوافر فيه شروط، يتضافر فيها الأخلاقي والاجتماعي والجمالي. وتبقى القدرات الخارقة محكاً حقيقياً للطّبع والمطبوع. أمّا الخلط بين صفات الطّبع والطّبيعة والمطبوع، فإنّ لذلك تأثيراً في آراء النّقاد وموثوقاتهم الذّوقية والمعرفية، فيضطرب أحياناً المفهوم، ممّا يؤثر في بيان النّص. ذلك أنّ الرصيد المعجمي للمصطلح، يفتقد إلى الدّقة في إيضاح خصوصيات الطّبع في صلته بالخطاب الشّعري، وتلك التفسيرات التي تتأسس على الغيبي في صورتي الوحي والإلهام.
فإلى أي مدى، يمكن لمصطلح الصّنعة أن يخرق الطّبع كأصل وبداية، وهل لهذا الخرق فعل في تفعيل الإبداع الشّعري وتوسيع آفاقه ومضاعفة عناصر الجاذبية والتشويق فيه؟
2 ـ الصنعة/ خرق المقضي
هل كان التحليل المعجمي لمادة (ص ن ع) أكثر ضبطاً وتخصيصاً من تحديد دلالة الطبع؟ وكيف تمّ نسج هذا المفهوم وتصوّره؟
ورد في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم 0ص 414، 415) لفظ (صنع) في هيئات اشتقاقية مختلفة ومتنوعة، عشرين مرّة. تارة ينسب فيها الفعل إلى الله تعالى (كقوّة خارقة ولا نهائية) وحيناً آخر تكون النسبة إلى الإنسان الأرضي.
نسب الفعل إلى الله في قوله: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى* وَاصٍطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (طه: 40 و41) وقوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسِ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بِأْسِكُمْ (الأنبياء: 80)، أي كيف أنّه علم النّبي داود صنعة الدّروع لتقيه وأصحابه من ضربات السّيوف وطعنات الرّماح في حربهم ضد خصومهم من الأعداء، فتحصنهم من الحصن، وهو الجدار المنيع. وقوله تعالى: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ النّمل: 88. إنّ صيغة (ص ن ع) في الآيات القرآنية ارتبطت بالإرادة والإتقان والعمل والعلم. أمّا بقية الصّيغ الواردة في الذّكر الحكيم، فإنّ الإنسان فيها هو الصانع، بمعنى الإرادة والقصد والتّنفيذ والاختراع، مثل ما صوّر مسؤولاً عمّا يقترف من ذنوب وآثام، نحو قولـه تعالى: وحبط ما صنعوا فيها هود 16، إنَّ الله خبير بما يصنعون فاطر 8. وقد تحمل هذه المادة الصّرفية دلالة الاختراع والبناء، بوحي من الخالق المطلق، نحو: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُننَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْني في الَّذينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ هود: 37. وأنّ الله هو الذي يلهم الإنسان فكرة صنع الشيء وإحكامه: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُننَا وَوَحْيِنَا المؤمنون 27.
إنّ مادة (ص ن ع)، هنا، تعني التّنفيذ من قوّة مطلقة هي الله. والقصد من هذا التّنفيذ تأسيس الشّيء وبناؤه، وفق تصوّر مسبق يتضمن فائدة وحضارة، كقولـه تعالى: وَتَتَّخِذَونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ الشعراء: 129. والمصانع التي تعنيها الآيات الكريمة هي الحصون والقصور المشيّدة، وغيرها من المباني العمرانية الأرضية، التي يتخذها الإنسان السفلي دعائم لوقايته وهنائه.
والدّلالة الدّينية، لصيغة (ص ن ع)، ترمز إلى مسؤولية الإنسان فيما يعمل ويسلك وينتج، وترتبط بشرط الإتقان والإحكام (البراعة). وقد أكّد الله تعالى أنّ إتقانه كامل ونهائي. وهذه الدّلالة العقائدية، لم ينتبه إليها النّقاد في حكمهم على حضور الشّاعر في تأليفه وتشكليه لأبياته، من حيث الاستهجان أو الثناء، فحكّموا أذواقهم ومراتب قراءاتهم في مشروعاتهم النّقدية،على الرّغم من أنّهم كانوا على دراية بأساليب القرآن وبلاغته وتفسيره. وفي ضوء الآيات القرآنية، التي وردت فيه صيغة (ص ن ع)، يتبيّن أنّ الصّنعة مطلقة عند الله، ونسبية عند الإنسان في حين أنّ الطبع مطلق لتعلّقه بالخالق. والصّنعة، هي ردف للممارسة، وشرط الممارسة الدربة والمران والنظر والسلطان على الشيء وتنقيته ممّا يشوبه.
وجاء في لسان العرب أنّ صيغة (ص ن ع) بمختلف تشكلاتها ومنها: صُنْع، الصناعة، الصنعة، صنيع، صنّع، صناع، صَنْع، تدلّ على العمل، وما يؤكّده من مهارة وحذق وقيام وتجربة وإظهار وبيان، كقول حسّان بن ثابت:
أهدَى لهم مَدِحي قلبٌ يؤازره
فيما أراد لسان حائِك صَنَعَ
في حين أنّ (التّصنّع) يعني تكلّف الشّيء وإظهار ما ليس فيه( ).
وفي مجال الإبداع الشّعري، فإنّ العمل كجهد وسعي وتولّي القول، وفعله بقصد، من مرتكزات الصنعة وأساسياتها، فلا صنعة جمالية بدون جهد ونظر وتمييز واختيار، إذ الغرض من إتقان الكتابة الشّعرية وإخراجها إخراجاً حسناً وجيّداً في مقابل الإنتاج العفوي، الذي لا يتوافر فيه شرط الإتقان بشكل كاف.
ويرتبط مفهوم الصنعة بالعمل والحذق، إذ أنّ: "الصّاد والنّون والعين أصل صحيح واحد، وهو عمل الشيء صنعاً. وامرأة صناع ورجل صنع، إذا كانا حاذقين فيما يصنعان"( ).
وفي الشّعر، فإنّ (صنَعٌ) تعني المهارة وبلاغة القول، فلا فرق بين براعة اليدين وبراعة الكلام والتّأليف. أمّا مادة (ص ن ع) في كتاب (النّهاية في غريب الحديث والأثر)، فإنّها جاءت دالة على مسؤولية العمل أخلاقياً واقتصادياً، من حيث ضمان العيش بعمل اليد، وتعني صنع الطّعام وتحضيره، كما تعني صوغ الشيء صوغاً جيّداً، كتشكيل الخاتم من الذّهب، وإنشاء الحصون والمباني( ). فالصّنعة هي التّعهد واكتساب التّجربة والدّربة في مقابل العدم واللاّحركة، وهي بذلك تتجّه إلى كيفية إنجاز العمل، مهما تكن طبيعته. ولذلك، فإنّ مادة (ص ن ع)، عموماً هي فعل يصدر عن الإنسان ـ وإن كان أحياناً بإيعاز من غيره، كما هو الحال في بعض الآيات القرآنية ـ، سواء دلّ على سلوك أو حالة أو مادة أو بناء.
وفي حالة البناء، بضربيه الجمالي والعمراني، تعدّ الصّنعة صنو الإتقان والإجادة والتّحكم، مثلما يصنع السّوار، أو يشيّد القصر ويقام الحصن، فتكون الإثارة والدّهشة. وقد ينسحب هذا التفسير الصّناعي على الإبداع الشّعري، الذي شرطه الإحكام والتّصميم الدّقيق والمتابعة، مثل ما هو الحال في قول الخليل بن أحمد: "وفرس صنيع، أي: قد صنعه أهله بحسن القيام عليه القول: صَنَعَ الفرس، وصنّع الجارية تصنيعاً، لأنّه لا يكون إلاّ بأشياء كثيرة وعلاج"( ).
إنّ في كلام الخليل إشارة واضحة إلى الجهد المبذول في ترويض الشيء ـ كما يروّض الحيوان ـ وتثقيفه وصقله، وأنّ استخدامه للفظ (علاج) دليل على الذّكاء والفطنة والتّمييز، والوقوف على حقيقة الشيء لإصلاحه بعد عيبه ونقصه. فالصّنعة بحاجة إلى طاقة جديدة غير مسبوقة ـ إلاّ بمهيئات ـ ومبدعة، وهي بالتالي تنطوي على إمكانية الإبداعي. وهذه الصّنعة في مدلولها المعجمي، تنبعث من فعل اليدين في خفّتهما ورشاقتهما في حوك المادي ونسجه، يقول الخليل: "وامرأة صنّاع، وهي الصّناعة الدّقيقة بعمل يديها، ويجمع صوانع..."( ). وارتبطت الصنعة بالحسن، وهو متعلّق بالله تعالى الذي صنع فأحسن بإطلاق: "... وما أحسن صنع الله عنده وصنيعه"( )، فالصّنعة التي فيها اختيار وتعهد واختصاص في صنع الجميل، تعني العمل، والعمل يتضمن الحركة، والحركة علامة على الصّحة والقدرة.
ومن دلالات الصّنعة، الحضارة التي تكشف في عمقها عن فاعلية الفكر وجلائه وصوابه، وقابليته للارتقاء والتقدم، فهي: إذن، تغيّر نوعي في فكر الإنسان، واستعداده على كشف المخفي والغامض دون الوقوف عند حدود الوصف. يقول الزّمخشري: "والعرب تسمّي القرية والقصر: مصنعة، ويقولون هو من أهل المصانع يعنون القرى والحضر"( ) أمّا مجازاً، فإن، (صنع) هي القيام الجيّد على ترويض الفرس، كما تعني ثوب الجارية، فهو صنيع، لأنّه حسن. وتشير إلى السيف، فهو صنيع إذا تعهّده صاحبه بالجلاء، ويمثّل الزّمخشري لذلك، بقول الطرماح:
بماءٍ سماءٍ غادرته سحابةٌ
كمتن اليماني سلَّ وهو صنيع( )
إنّ مدلول الصّنعة، يتجسّد إبداعياً في جودة النّسيج، وما يشيع فيه من ألوان جمالية، متعلّقة بدرجة تحضر الشّاعر ونوعيته، انتظاماً وتناغماً. وهذه الحضرية المؤسّسة على صنع الشيء وبنائه، تتجلّى في قول لبيد:
بلينا وما تبلى النّجوم الطوالع
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع( )
فإنّ المصانع هي المادي المحسوس الّذي أبدعه الإنسان، وظلّ يحمل دلالات تفوقّه.
والصّنعة في كتاب (التّعريفات)، عمادها الاختيار والكيفية دون تأنٍّ، وهي ملكة مغروزة في النّفس، كما أنّها قائمة على جهد في زخرفة الشّعر، كحال صنعة التسميط، في قول ابن دريد:
لمّا بدا من المشيب صونه
وبان عن عصر الشّباب بونُه
قُلتُ لها والدّمع هام جَونَه
أما ترى رأسيَ حاكي لونُه
مُرَّةَ قُبحٍ تحت أذيال الدُّجَى( )
إنّ الشعر حالة وجدانية واعية، واستعداد نفسي تستخرج فيه الأشياء، دونما عناء، تتجلّى فيه الصّنعة في لحظة التّأليف بإتقان، فإنّ ابن دريد قد بنى شعره على التوافق الصّوتي: (صونه، بونه، جونه، لونه). وهذا التّوافق، من شأنه أن يعسف على الحفظ والتّغنّي، واستيعاب الدلالة ورسوخها في الذّهن.
إنّ مادة (ص ن ع)، يختلف مدلولها، وفق الصيغة الصّرفية، فإنّ تفعّل (ت ص نّ ع)، هي نقل المجرّد الثلاثي إلى وزن المزيد، وهي تكلّف الصّنعة من الفاعل لتحصل أو إظهار ما ليس في الشيء بالطّبع. أمّا الصّنعة في (المعجم الأدبي)، فإنّها لغةً: "كلّ علم أو فنّ مارسه الإنسان حتّى يمهر فيه يصبح حرفة له"( ). واصطلاحاً، تعني، أوّلاً، تحصيل الأديب على علوم قديمة بعينها، ومحاكاة الفحول، بالممارسة والمران، حتّى يكسب أسلوباً مميّزاً في إنشاء الأدب، وهي ثانياً، ذلك الجهد المصقول، الذي تجسّده براعة اختيار الألفاظ أو صياغة الكلام وتوشيته بضروب البديع، وإثرائه بالطريف من الأخيلة والمعاني. إلاّ أنّ هناك من النّقاد القدامى، من شرط وجوب أن يكون الجهد الحاصل خفيّاً مستوراً، لا يشعر به المتلقي، ومنهم من جعل الصّنعة مثيلاً للفن( ). فالصّنعة هي تعلم وتجربة وحرفة وممارسة منظمة، وإتقان وبراعة، لأنّها، لا تحصل، إلاّ بالتّعهّد، الذي يعدّ ركيزتها الأولى، وتبرز أكثر في الصياغة الجمالية. كما أنّ الصّنعة، لا تستوي دون صقل وتهذيب، وهما دليلان على أنّ الشّعر قبلها كان فيه اضطراب واختلال. لذلك، فإنّ الفن، هو جوهر الصّنعة، لما يمارسها الشّاعر المقتدر بإتقان، يعني أساساً معرفة الشّيء والوقوف عليه بيقين، بعد إحساس كبير بالعناء والبحث والتّقويم. إنّ الصّنعة عملية ذهنية/ جمالية تتوخى الابتكار، وطريقة يهذّب فيها الشعر ويصلح، قبل كشفه للآخر. من هنا فإنّها ترتبط بالحرفة، التي تستدعي دقة ونظراً وتأمّلاً، خلافاً، لذلك الشّعر الذي قد يعبّر عن مجرّد هواية أو ميل طارئ، مع أنّ القول إنّ الشعر حرفة، هو بمثابة رؤية قاصرة عن فهم الشّعر في صلته بالنفس البشرية، فهل مثلاً يمكن لهذه الحرفة من خلال الوزن والقافية أن تسود، فيصنعان التّجربة الشّعرية، بل الحقيقة الشّعرية؟ فمن الناحية الفلسفية، تعني الصّنعة: "الطريقة المنظمة الخاصة التي تتّبع في عمل يدوي أو ذهني"( ). إنّ هذه الطّريقة مقدّرة ومضبوطة، وليست افتعالاً أو تظاهراً، كما هو الحال في (مصنوع وتصنّع)( ).
ولا يوظّف أبو البقاء الكفوي في معجمه، لفظ (الصّنعة)، ويستعيض عنه بلفظ (الصّنع)، وهو: "تركيب الصورة في المادة"( ). والمادة لا تشكل وظيفة، إلاّ إذا تمّ نسجها في صورة فنّية، ولذلك، فإنّ الصورة، هنا، هي فعل الصّنعة وعملها ومتانتها. والصّنع يقابل التّصنع، الذي يعني فقط، الشّكل الخارجي، وبه تبلغ الزّخرفة مبلغاً فيه إفراط على حساب الغاية من الشّعر (جوهره).
كما يعتقد أنّه لا يبالي بالمضمون الذي يرجى من القول، لأنّه ليس مبدأ أساسياً، وهو أيضاً وضع الشّيء في غير موضعه الطّبيعي. وقد وظّف ابن رشد مصطلحي (الصّانع، الصّنعة) في بعدهما الفلسفي، للدّلالة على العلاقة بين الخالق وموجوداته، على أساس أنّ الشّرع، قد أجاز للعقل معرفة مصنوعات الله والحث على النّظر فيها، يقول: "إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النّظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع.. فإنّ الموجودات إنّما تدلّ على الصّانع لمعرفة صنعتها. وأنّه كلّما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصّانع أتمّ"( ).
وفي معجم (La Rousse)، فإنّ اشتقاقات (ص ن ع) هي الحرفة والحيلة، والبناء، والمنتوج النّاشئ عن تقنية بشرية، وليس للطّبيعة دخل فيها( ).
وما يسترعي الانتباه أنّ البحوث النّقدية العربية القديمة في تحقيقها للنصوص صحّةً ووضعاً، قد وظّفت لفظ (المصنوع)، ويعني الموضوع والشّك كما هو الحال عند ابن سلاّم الجمحي، إذ المصنوع هو الموضوع الذي يحتاج إلى فكر نقدي وذوقي عالم بالشّعر نافذ فيه، لاستخراجه تمييزاً لـه من صحيح النّسبة.
فقد ذكر ابن سلاّم أنّ خالد بن يزيد الباهلي سأل خلف الأحمر حكمه عن الأشعار التي تروى، فردّ: "هل تعلم أنت منها ما أنّه مصنوع لا خير فيه"( ).
كما أنّ المصنوع عند أبي العلاء المعرّي، هو ذاك الّذي، لم تجر العادة بمثله( ). والرّاجح أنّ الدّاعي إلى الاستدلال على الموضوع بالمصنوع، أنّ الصّنعة ارتبطت بتزيين الشّعر، كأداة لعدم القدرة على خلقه وابتداعه (طبع)، فأضحى (المصنوع) صفة للإنسان مشاكلة للزيف والكذب ومجافاة حقيقة الشّيء وصحتّه وأصله. وقد أفرد السّيوطي قسماً من (المزهر) خصّه بعنوان (معرفة المصنوع). ويظهر من الأمثلة التي أتى بها، على ألسنة اللّغويين والرّواة، أنّ المصنوع هو المنتحل( ). ومن أدلة ذلك، أنّه في (أمالي) ثعلب أنشد في وصف فرس.
ونجا ابن خضراء العِجان حويرثٌ
غليانُ أمّ دِماغِه كالزّبرَج
فقال أبو الحسن المهيدي للسيّوطي:
"هذا بيت مصنوع، وقد وقفت عليه وفتشت شعره كلّه فلم أجده"( ). كما أنّ أبا عبيدة أنشد لجرير قوله:
وخورُ مجاشع تركوا لقيطاً
وقالوا حِنوَ عينِكَ والغُرابَا
وصرّح بأنّ البيت مصنوع، وليس لجرير( ).
ولم يكتف السيوطي، بذكر الأبيات الشعرية المصنوعة وكشفها، بل أنّه تطرّق كذلك إلى ما قيل في الألفاظ المصنوعة (غير الفصيحة)، من ذلك أنّ ابن دريد في (الجمهرة) أشار إلى أنّ الخليل بن أحمد قال: "أمّا ضهيد، وهو الرجل الصّلب، فمصنوع لم يأت في الكلام الفصيح. وفيها: عفشج، ثقيل وخم، زعموا، وذكر الخليل أنّه مصنوع..."( ).
أمّا الصّنعة التي اقترنت بالحرفة والعمل والممارسة، فإنّها قد وردت بمعنى العيب، وقد أشار إلى ذلك النّابغة الذّبياني، بعدما علم بنقص شعره من الكمال، حين كشف أهل يثرب بأنّه يقوي، فقال:
"دخلت يثرب فوجدت في شعري صنعة، فخرجت منها وأنا أشعر العرب، أي وجدت نقصاناً عن غاية التمام"( ). والنّابغة بذلك، يريد أن يقنع متذوق أشعاره، بأنّه أصبح مطبوعاً (تامّاً)، وأنّه يمكن سماع شعره، إذ تحوّل بهذا التّقويم إلى مرجعية في الطّبع، والطّبع قد يخمد وتفتر طاقته. إنّ الصنعة هي العمل وما يتبعه من حضور وقصد وممارسة وإنتاج، إلاَّ أنّها أحياناً تفقد هذه الميزة البشرية المرتبطة بالإتقان والجودة، فتنقلب إلى عيب في الأحكام النّقدية التي تبحث في صحة نسبة الأشعار، كما أنّها إذا فقدت عنصر البراعة الفنّية، تتحوّل إلى تكلّف في تناول الشيء ونعته. ولكنّها في حقيقتها دلالة واضحة على قابلية الشّاعر، على تطوير أدواته الجمالية ونظرته إلى الذّات والآخر، إذ لولا هذا الوعي الذي توّلده الصّنعة لظلّ الطّبع كما هو دون نماء أو ارتقاء. وبذلك جاءت الصّنعة تالية للطّبع، غير متقدّمة عليه في أصل الإبداع، ودون أن تتسع الفواصل بينهما.
وإذا كان الطبع والصّنعة، هما أساس الكتابة الشعرية، فكيف فهم النّقاد العرب القدامى، الشّعر في ضوئهما؟ وهل أقرت بحوثهم بإمكانات خروج الطّبع على مداره؟
إنّ مصطلح الطبع والصنعة، من المفاهيم النّقدية والبلاغية، التي رافقت عملية الإبداع الشعري، وحاولت تحديد معالمها وضبط أسسها، وأصبح هذا المصطلح وسيلة النقد وغايته، في الحكم على الشعر، من حيث جودته أو رداءته. بذلك فإنّ الطبع والصنعة يشيران معاً إلى المذهب الجمالي في الكتابة ـ علماً أنّ النقد في أوّل نشأته احتضنه الشّعراء والمتذوقون من عامّة النّاس، فلم يتحوّل هذا المفهوم إلى مصطلح نقدي ـ وهذا المذهب يسع الإبداع، بما يتضمنه من قواعد وإجراءات وشروط وأحكام، تعبّر جميعها عن نوعية التذوق والفهم، وفقاً لثقافة النّاقد ومدركات جهازه المعرفي والأدبي، وأثر ذلك كلّه في توجيه القراءة النّقدية. مع الإشارة إلى ذلك التّوهم الذي طبع إحساسات النّقاد باحتواء معرفة الشعر، والقدرة على تحليله ووصفه، في ضوء التصنيف النسبي للشعر والشعراء استناداً إلى هذا التوهم. وهو تصنيف، تنعدم فيه المنهجية والدّقة والتنظيم، لأنّ منطلقه الاحتكام إلى الذوق في تقويم إشكالية الطبع والصنعة، وهي إشكالية، لا تقدم في جوهرها إجابات حاسمة ونهائية، لقضية، ظلت مبهمة، بسبب اتصالها العضوي بالخطاب الشعري في مستوياته المختلفة والمتداخلة.
والالتزام بمصطلح الطبع والصنعة، مردّه إلى أنّ هذه التسمية المكررة والمتداولة، هي التي ارتضاها التراث النقدي والبلاغي، وتواضع عليها، وقوم من خلالها الشعر في شقّيه الشّكلي والدّلالي. وهو تقويم، يفتقر في أحايين كثيرة إلى الضبط العلمي، لعدم خلوّه من أثر العاطفة، في الميل إلى شاعر معيّن، أو إلى نص ما، أو عصر أدبي مخصوص. في حين أنّ المصطلح بطبيعته، لا يولد هكذا، بل إنّه يجنح نحو الدّقة، لأنّه نتاج الفكر والمعرفة والوعي.
وهناك مشكلات نقدية شائكة، أثارها النّقاد القدامى، وقاسوا في أثنائها الشعر الجيّد، الذي يروق ويتمكّن، مثل قضايا اللّفظ والمعنى، السرقات الشعرية، ولغة الشعر، وكيفيات صياغته ونظمه، دلالاته ومرجعياته المختلفة، الصورة الشعرية ومعايير تشكّلها سهولةً وتعقيداً، استجابات المتلقي، سامعاً أم قارئاً.
إنّ هذه القضايا مجتمعة، وما يتفرع عنها من أبحاث أخرى، أخضعها النّقاد في شفاهية الشعر وكتابيته، إلى معيار الطبع والصنعة، فإلى هذا المعيار تنتسب كلّ هذه القضايا، وبه تصدر الأحكام، في تماثلها أو تعارضها وتباينها.
إنّ الطبع والصنعة، يعدّان حقيقة نقدية عرفية، تحوّلت بفعل إخضاع النّصوص إلى المعالجة، إلى رموز استدلالية، أضحى فيهما التناظر المتواري في ثناياهما، دلالياً. فإنّ الشعر بطبيعته ينجذب إلى أمرين محوريين، هما: العادة، وخرق العادة. وأنّ العادي، غالباً ما يفسرّ بأنّه البسيط والواضح. لكنّه يؤكّد التفوق والابتكار في أحكام النّقد الذّوقي، ويمثل قوّة ذات أثر، لأنّه في منطقه، مرجعية الأنموذج والأصل، لمفردات الطبيعة والكون والإنسان. بينما خرق العادة، يمثل خروجاً قصدياً على المألوف، غرضه عدم فاعلية السائد، ممّا يستدعي إلغاءه.
فهل استطاع نقد الطبع والصنعة، أن يستقطب حركات النّص الشّعري ومبدعه ومتلقيه؟ وأن يختزل مسافات القراءة والتّقصي ودروب المعاناة؟ وهل تحكمه رؤية علمية وخبرة ثابتة ومضبوطة؟ وما دلالة هذا المصطلح النّقدي؟ وما صلة ذلك بنشأة الشعر ونمائه وتطوّره؟ وهل للمعتقد بشتى صوره الدّينية والاجتماعية والثقافية والخرافية، أثر في الاختلاف بين الطّبع والصنعة، أو في درجة المشاكلة ببينهما؟
إنّها أسئلة، يحاول هذا البحث أن يترسّم خطاها، بدءاً من الجذور اللغوية للطبع والصنعة في مواصفتها الاصطلاحية، وتجلياتها في الموروث الإبداعي، التي تعين الباحث على استقصاء المفهوم، ووضع معالم الإشكالية، لتثبيت القصد في إطار معرفي ومنهجي، تدعمه فرضيات القراءة والتحليل، والحجج التي لابدّ من إظهارها وضبطها. إنّ مردّ ذلك كلّه، إلى قناعة تؤكّد أنّ الطّبع والصّنعة غير واضحين تمام الوضوح في آراء النّقاد ونقاشاتهم. فهل تجلّى في المعاجم ـ على اختلاف تخصّصاتها ـ الاستخدام المضبوط والمحدّد لمفهومي الطّبع والصّنعة؟ وهل تمكنّت هذه المعاجم، أن تدرك ذلك، بحيث تكون عاملاً أساسياً في فهم الشّعر ومعرفته؟
1 ـ الطّبع/ الفعل المقضي
إنّه لا يمكن البحث في دلالات أيّ مصطلح، إلاّ بالرجوع إلى جميع السياقات المختلفة، التي ورد فيها، والتّركيز على الفروق الدّقيقة بين معنى كلمة وأخرى، فإنّ المصطلح المحور يستدعي لزوماً مصطلحات فرعية، تبين عنه وتعضده، ورصداً لما يفرضه البحث المنهجي، كان لابدّ أن يكون البدء من الأصل الذي هو (الطّبع) في النّشأة والماهية والوجود، ومجمل العوامل التي يتركّب منها ويتميّز.
إنّ للطّبع، على اختلاف صيغه الصرفية، وهيئات تركيبه، دوراً في إنتاج الدّلالة الإبداعية والنّقدية، كما يبرز ذلك في (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)، الذي جاء فيه الجذر اللّغوي لمادة (ط ب ع)، عشر مرّات( )، ومنها: (طَبع، نطبَع، يطبَع، طُبع). وتمثل ذلك قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (النساء: 155). وقوله: أُولَئِكَ الذَّيِنَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ (النحل: 108). إنّ القصد من ذلك، أنّه تعالى قد أزاح عن الكفّار، القدرة على العلم والمعرفة، وكذلك قوله: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (الأعراف: 100). وقوله: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. (الأعراف:101). وقوله: وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. (التوبة: 87).
إنّ الصيغ المشتقة من مادة (ط ب ع) في آيات النّص القرآني، تعني انتقاء القدرة على فعل الشيء، لما أسندت إلى الذّات الإلهية التي ختمت على قلب الكافر، فأصبح لا يفهم، وبالتالي وقع الفعل عقاباً، على من اتبع هواه، وغفل عن ذكر الله والثناء لـه والتسبيح إليه. وقد ورد عند الأشعري، أنّ أهل الإثبات يرون أنّ: "قوّة الكفر طبع"( )، وأنّ بعضهم يذهب إلى حدّ القول: "إنّ الله طبع على قلوب الكافرين أي خلق فيها الكفر"( ).
كما أنّ مادة (ط ب ع) تدّل على المطلق بعلّة، فهي حكم نتيجة إدّعاء وسلوك منحرف، وقد سدّت مسدّ العقاب، ودلالتها دّينية، إذ لا صلة لها بالموهبة والإلهام والتّمكن على قول الشيء وإتقانه.
ولفعل (طبع) في الآيات الكريمة هيئات مختلفة:
الفاعل هو (الله)، أي الاستطاعة قبل الفعل الحاصل، فهو (العقاب) ممثلاً في الختم والغشاوة والسكون، والدّلالة هنا دينية.
إنّ الطّبع من المنظور الدّيني يعني العلامة التي يعرف بها الشيء ويتحدّد. وهي علامة تتصف بالثبات، لا بالتّحوّل، وفي معجم لسان العرب، فإنّ صيغة (ط ب ع) مساوية للعلامة وردف لها، وأنّ معناها يتجّه إلى الخلق كريماً كان أم دنيئاً، على نحو ما يتجلّى ذلك في الأبنية الاشتقاقية التي تشكّل فيها: (الطبْع، الطِبع، الطبَع، الطبائع، الطبيعة، الطباع)، وفي الأبنية الصرفية (طُبِع، طبَع، يُطبَع، تطبّع)( ).
إنّ دلالة هذه المادة، تعني سخف السلوك، كما أنّها تدلّ على الأثر مثل الوسخ الشديد على السيف، أو هي بمنزلة السجية والخليقة ونحوهما، كما في الطبيعة والطباع ـ هذه الدّلالة تقرب الدّلالة النّقدية العامّة للطّبع ـ. ولا فرق في (لسان العرب) بين: الطبع، الطبيعة، الطباع، فإنّها جميعها ترمز إلى: "الخليقة والسّجية التي جبل عليها الإنسان"( ). وهناك صيغة (طابع)، التي تعني الحسن والطبيعة، مثل ما أنشد اللحياني:
له طابِع يجري عليه، وإنّما
تفاضِل ما بين الرجال الطبائع( )
وتأخذ (طبع) معنى الفطرة التي فطر عليها الإنسان، فهي إذن صفة ترتبط بسلوك الإنسان وخلقه: "وطبعَه الله على الأمر يطبَعُه طبْعاً: فطره. وطبَع الله الخلق على الطبائع التي خلقها فأنشأهم عليها وهي خلائقهم يطبعهم طبْعاً: خلقهم، وهي طبيعته التي طُبع عليه وطُبعَها والتي طُبِع( )".
إنّ الفعل هنا واقع على الإنسان، لأنّه يمثل الكلي اللامتناهي، ويدلّ على عدم الإرادة والوعي والاختيار. وفي حديث الرسول : [كلّ الخلال يُطبَع عليها المؤمن إلاَّ الخيانة والكذب أي يخلق عليها"( ).
فالطبع ذو دلالة دينية/ أخلاقية، مرتبطة بالفطرة والنّشأة على الأخلاق الفاضلة. أمّا ما يخالف هذه الصّفة، فلا يصدق عليه مفهوم الطّبع. إنّه هنا مخصوص، وليس عامّاً مشتركاً. ويأخذ الطّبع معنى البدء في عمل الشيء وتشكّله، فهو: "ابتداء صنعة الشيء، تقول طبعت اللبِنَ طَبْعَاً، وطبَع الدّرهم والسيف وغيرهما يطبعهما طبعاً: صاغه"( ). إنّه الختم والعلامة، التي تميّز شيئاً من آخر، دون الإشارة إلى إتقانه. أمّا مادة (تطبع)، فإنّها شدّة الامتلاء "وتطبع النهر الماء: فاض به من جوانبه وتدفّق"( ). وقد وصف النّقاد القدامى طبع الشاعر بأنّه يتدفّق باستمرار، ويتوالى دون انقطاع، ممّا يؤكّد الصّلة الوثقى بين الطبع والماء، هذا الأخير الذي تقوم عليه الحياة وتكسب طاقتها وفعلها. فلا غنى إذن، عن الطبع في قول الشعر وتأليفه والإبداع فيه. ولذلك، فإنّ الطّبع عند ابن السّكيت، هو النّهر في امتلائه، ويمثل لـه بقول الشاعر:
فتولَوا فاترا مشيُهم
كرويا الطّبْع همّت بالوحَلْ( )
فالنّهر سمته الجريان والتّدفق والانسياب، والطبع كلك هو حياة الشعر التي تمدّه بالإبداع والتّفوّق.
والطّبع يجمع على (طباع)، وهو كلّ ما فطر عليها الإنسان: "في مأكله ومشربه وسهولة أخلاقه وحزونتها وعسرها ويسرها وشدّته ورخاوته وبخله وسخائه"( )، بينما (علم الطّباع) في حقل المعرفة العلمية، هو: "علم نفساني موضوعه تحديد الطباع البشرية المختلفة، وتصنيفها من أجل الاستفادة، في التنبؤ بالأقوال والأفعال على سبيل الحيطة"( ). وقد نعت الفرزدق في البيئة العربية، بأنّه غليظ الطّبع شديده، مثلما تكشف ذلك أخبار أشعاره في الهجاء والذّم.
إن مادة (مادة ط ب ع)، إذن، في معجم لسان العرب بصيغها المتعدّدة تشملها صفات، يمكن حصرها فيما يلي: (أ) ليس الطبع فعلاً إنسانياً إرادياً. (ب) يدلّ على العقاب جرّاء سلوك منحرف (ج) يرمز إلى السلوك القويم والانضباط التّام. (د) يعني الفطرة التي جبل عليها الإنسان. (هـ) التلقائية، بغير حاجة إلى قدرة ذاتية. (و) صياغة الشيء وتشكيله في هيئة ما.
وسبق الزمخشري ابنَ منظور في تحديد معاني المادة (ط ب ع)، فهي في صيغها الاشتقاقية المتعدّدة تعني الختم والنّقش والتّدفق والجريان والأخلاق السيّئة أو الممدوحة كالكرم إلاّ أنّ أبا البقاء الكفوي، لا يقول بالترادف بين هذه الكلمات، وهي عنده تختلف من حيث الشمول والتخصيص، يقول: "والطبع أعمّ من الختم، وأخصّ من النّقش"( ).
فالختم يعني النّهائي، والطبع نهائي لا أثر للاجتهاد الكبير فيه، ويفرّق أيضاً بين الطبع والطّبيعة، فالأوّل عام، والثانية مخصوصة. والطبع قوامه الحركة المطلقة، سواء بإرادة، أو بدون إرادة، وهو قوّة النّفس في كشف الأسرار، وقد تكون الطّبيعة كذلك، إلاّ أنّها إرادة النّفس للبدن، تسخيراً لا اختياراً، وهي حركة من دون إرادة( ).
إنّ الزّمخشري لم يشر إلى دلالة الطّبع الإبداعية، إلاَّ في قوله: "وهذا كلام عليه طبائع الفصاحة"( ). وقد عدّ البلاغيون الفصاحة سمة للطبع الموهوب، الذي يتخلص فيه الشاعر من أثر الحضارة، وما قد يتولّد عنها من تكلّف، وفي كلام الزّمخشري، فإنّ الطّبائع هي السمة المميّزة للكلام البليغ السهل، الذي لا يعتوره خلل أو غموض. وكأنّ الطّبائع صفات ثابتة، غير قابلة للتّشوه أو التغيير، أمّا ابن منظور، فلم يتطرق إلى الدّلالة الأدبية أو النّقدية في صيغة (ط ب ع)، إنّما ركّز على السلوك والهيئة، علامتين للإنسان والطّبيعة، وهي أمور انبنى عليها تأسيس النّقاد والبلاغيين، في كلامهم عن الشعر والشّاعر، خارج الدّلالة الاجتماعية، التي تتجلّى في إيراد أبي العلاء المعري لبيت شعري يدلّل فيه على فساد الطّبع، لأنّ الفساد غريزة في البشر:
في أصلنا الزّيغ والفساد
وهذا اللّيل طبعٌ لجنحه الحذر( )
فالطّبع حين يفسد ويختل، يشبه اللّيل في سواده وإظلامه.
ولم يورد الجيّاني ـ على عادة المعجميين ـ المواد الصرفية للصيغة (ط ب ع) بل إنّه أتى بعدد من المترادفات، التي لها دلالات مختلفة للطبع، لكنّها متقاربة ومؤتلفة، وهي: "غريزتي، وخليقتي، وضريبتي، ونحيرتي، وسليقتي، وخيمي، وشيمتي، ونيّتي، وشمائلي، وسجيتي، وجبلّتي، وخلقتي، ودربتي، ونيتي، وعادتي، وشنشنتي، وديدني، واجريّاي"( ). وما يلفت الانتباه في هذا النّص، أنّه جعل الدّربة، دليلاً على الطبع، وصورة من صوره اللاّزمة.
والطّبع معرّض إلى التّشوّه، الذي يفقده نقاءه وأصالته وصحته، هذه الصّحة التي يمكن كشفها من الأحرف المكوّنة له، كما يشير إلى ذلك ابن فارس في قوله: "الطاء والباء والعين أصل صحيح، وهو مثل على نهاية ينتهي إليها الشيء، حتّى يختم عندها"( ). ولكن أبا هلال العسكري نبّه إلى الاختلاف الدّقيق بين الختم والطّبع، الذي يستفيض في شرح معانيه، فهو: "أثر يثبت في المطبوع ويلزمه، فهو يفيد من معنى الثّبات واللّزوم ما لا يفيده الختم..."( )، الذي: "ينبئ عن إتمام الشيء وقطع فعله وعمله..."( )، فأبو هلال العسكري حدّد دلالة الطبع، دون أن يربطه بالممارسة، التي أثبت فيها الشعراء والنّقاد، أنّ الطّبع ليس دائماً ثابتاً، فقد تعترضه عوارض آنية، يجفّ فيها ويجدب.
وإمعاناً في التّوضيح، فإنّ الطبع في المعجم الوسيط، هو: "الخلق ـ والمثال أو الصيغة"( )، بينما يأخذ بعداً مغايراً في اختصاص علم النّفس، إذ هو: "مجموع مظاهر الشعور والسلوك المكتسبة والموروثة التي تميّز فرداً عن آخر"( ).
إنّ هذا التّحديد النّفساني، مؤدّاه، أنّ الطبع استعداد فطري، وأنموذج أصيل للتّمييز والمخالفة، وهو كذلك كنتاج تراكبي بين الفطري والمكتسب. كما أنّ هذا التّحديد يبرز في معنى الطّبيعة، التي هي: "السجية، ـ ومزاج الإنسان المركّب من الأخلاط ـ والقوّة السارية في الأجسام التي بها يصل الجسم إلى كماله الطّبيعي"( ).
فالطبيعة إذن، هي الانتهاء إلى الشيء والوصول إليه، أمّا المطبوع، فإنّه الذي تتوحّد فيه الموهبة والجودة، من غير تكلف( ). إنّ عدم الاتفاق في تبيان ضبط الشيء وتحديده، يبرز هنا بين ابن نباته، الذي عرّف الطّبع بالسّجية، في حين أنّ المعجم الوسيط يطلق السجية على الطبيعة. وفي كتاب التعريفات، فإنّ الطبع يقرب من المفهوم الغيبي الذي تنحسر فيه إرادة الإنسان، بل تتوارى: "الطبع ما يقع على الإنسان بغير إرادة، وقيل: الطبع بالسكون: الجبلّة التي خلق الإنسان عليها"( ). كما يطلق المعجم الوسيط السليقة على الطّبيعة، أي الإفصاح الطّبيعي، دون تعلم أو جهد أو مكابدة، وفي ذلك يقول الشّاعر:
ولستُ بنحوي يلوك لسانَه
ولكن سليقيُّ أقول فأعرب( )
إنّه يفرق بين نمطين من الأداء، أحدهما طبيعي (سليقي)، يصدر بعفوية مطلقة، لا خطأ فيه ولا زلل، والآخر صناعي معياري، يتمّ بوساطة إتقان القواعد. وفرق بين النّطق السّليم، دون قراءة، وهو خصلة فاضلة، ونطق لا يكون صحيحاً إلا بالقراءة والمران، (وهو خصلة مذمومة). والطبع هنا القول على السليقة كلاماً وشعراً وبلاغة تركيب وأداء.
أمّا الطبع فلسفةً، فإنّه: "جملة الصفات الدّائمة التي يختصّ بها فرد دون آخر أو فئة دون أخرى في الأقوال والأفعال"( ). إنّه، هنا، لا يتأثر بالعوامل الخارجية، فهو ثابت، لكنّه مخصوص. وفي الخطاب الشعري، يطلق الطبع على شعر معيّن، وشعراء معيّنين، طبقاً للقصد من معنى الطبع. كما أنّ الطبع مباين للانطباع، الذي يتميّز بالتغيّر، نتاج تأثير العوامل المثيرة وما يتولّد عنها من إحساسات، إنه: "ضرب من الشّعور يجيء ردّ فعل لمؤثر خارجي"( ).
إنّ الطبع هو خلاصة تجربة موقف الإنسان الاجتماعي، من العالم حوله، يظهر ذلك في جميع أنماط سلوكه وتصرفاته، التي تيسّر التعرف عليه وتحديده. كما أنّ الطّبع ليس فطرة، وإنّما هو محصول اجتماعي، ناتج عن أثر عامل السياق العام الذي يتحرّك فيه الإنسان، ويكسب من خلال توافقه صفة المطبوع. إنّ تعليق الطبع بشرط المؤثر الاجتماعي والتّربوي، قد يكون القصد منه التّمييز بين الطّبع والصّنعة، دون الاعتراف بالفطرة والسجية، إنما الإقرار بدينامية الإنسان كذات فاعلة داخل المجتمع. والطبع فطرة، يتعذّر فيه على صاحبه، تقديم نظرة دقيقة وفاحصة عن الحياة بتعقيداتها، التي تحتاج إلى وعي مدرك.
وتذهب مادّة (ط ب ع) إلى العادة، التي إمّا أن تكون صفة ما أو سلوكاً معيّناً يتوارث، أو هي أصل النّشأة والظّهور. أمّا لفظ (التّطبع)، فإنّه يعني فقط الكسب والتحصيل على مثال. بالمقابل تدلّ الطبيعة على حالة شعورية إنسانية قوامها البساطة والسهولة والوضوح. وهي، وإن تكوّنت نتيجة جهل، إلاّ أنّ صفتها النّهائية والرّاسخة، الانسجام التلقائي، الذي يميّز السلوك بشكل عام، ويتجلّى في: "البداوة والعفوية، في ما يأتيه الكائن من تعبير أو تصرف... مع أنّه نتيجة عناء محكم، وصنعة متقنة"( ). إنّ الصّنعة المتقنة، تؤول إلى طبع المبدع وتؤدي إليه، وهكذا يبدأ الشاعر مطبوعاً، وينتهي مطبوعاً، والطّبيعة، هنا، تساعد على التّأليف والكتابة بجهد أقل، لذلك اقترنت عند الجاحظ بالعادة،: "والعادة توأم الطّبيعة"( )، ولا يكون ذلك في منظوره، إلاَّ بالممارسة والتّعهد، اللذين يجعلان العادة مناسبة للطّبيعة.
وورد في المعجم الأدبي أنّ الطّبع عبارة عن صفات ثابتة، تميّز شخصاً من سواه، وهذه الصّفات المميّزة والدّالة، يتشخص فيها الأفراد والجماعات من حيث السلوك والشعور والملامح الذّاتية، بمنأى عن سلطة المجتمع وأثر الذكاء، وفي حقل الإبداع، فإنّ الطبع يبين عن شخصية مستقلّة( ). أمّا الطّبيعة، فإنّها القوّة، التي تدير الوجود بحتمية وقوانين معلومة وضابطة، تنطبع بها ماهية الإنسان ووجوده، وتشير إلى ما هو عفوي وسليقي فيه. وهي تقابل الإرادة الحرّة في تحصيل المعرفة والعلوم. كما أنّ مصطلح (الطّبيعة)، يرمز جمالياً إلى وضع الأشياء في ثباتها، فضلاً عمّا يضفيه عليها المبدع من علامات. والطّبيعة تحرّك أحاسيس الفنّان وتؤثر فيها، فيصفها على نحو ما هي، خلافاً للإبداع، الذي لا يتكيّف وفق نظام الأشياء( ). ويسهب صاحب المعجم الأدبي في شرح صيغة (ط ب ع)، فالطّبيعة هي ما يحكم الكون ويسيّره، بفعل قوّة غير معروفة نظير مسؤولية الإنسان على أفعاله. وهي كذلك العلم المختص بدراسة العالم. والطبيعة ترمز إلى ما يحكم تفكير الإنسان ويوجّهه، وإلى ما يميّزه، فنتخذ معنى العفوية والسّجية، ومن الناحية الجمالية، فإنّ الطّبيعة، هي أصل الأشياء، لا فروعها، وما يثير في الإنسان من عواطف ووجدانات، أو هي أنموذج ثابت، يكشفه الفن، ولا يبتكره. ومن الجانب الأدبي، فإنّ الطّبيعة هي كلّ موضوع متجددّ، يتجلّى في الأنواع الأدبية، يصبغ عليه المبدع حركة وحيوية، بتشخيصه، ليحدث تفاعلاً معه. أمّا الطبيعي صفةً، فهو في الأدبي الشعور النّاتج عن جهد مبذول. بينما الطّبيعية، محاكاة تامّة للطّبيعة، التي أوجدت نفسها بنفسها، كما تعني تقيّد الإنسان بالغرائز، التي أملتها الطّبيعة عليه، مثلما هي تقليد الطّبيعة تقليداً حرفياً( ). هكذا تكون الطّبيعة، ممثلة في الطّبع، بمثابة الكلام العادي، الذي ينطق صاحبه على سجيته. أمّا الإدراك العقلي لخصائص الأشياء، فهو انفلات من القيود الصارمة إلى رحاب ذرى تعبيرية جديدة، وصور مبتدعة، توحي جميعها إلى ما يتطلبه مقتضى التّفكير والتّأمّل، طلباً للتفوّق، ودون تأثير الدّافع الحتمي الطّبيعي المنبثق من عوامل، لا سلطة للآخر عليها. وفي المستوى الإدراكي للمصطلح فإنّ الطبع، يتعارض مع الاكتساب والذّكاء. وهو في الإبداع الصّفة الواضحة دون تأويل. بينما الاستدلال على المعنى المقصود من لفظة (طبيعة)، فهو الخضوع الجبري والتّلقائي للقوانين المكيّفة للوجود البشري، دون أن يتواضعوا عليها سلفاً. إنّها قائمة في الذّهن، متبدية في السلوك. وفعل الاستجابة فيها، يتمّ على نحو آلي. إنّ الطّبيعة ضرورة تتنافر وحرية الإنسان وقابليته على الحركة والامتداد، ولكن هذه الضرورة، ستسوقه حتماً ـ إن توافرت الإرادة ـ إلى الإبداع الذّاتي، لتأكيد التّواصل الفعلي والحضوري للذّات مع الآخر. وعوض مصطلح الطّبع، هناك من يوظف لفظ (الطّبعية) نسبة إليه، وهو مفهوم جديد، يتجلّى في نزعة البداوة والبساطة والعفوية، وإن كان ناتجاً عن جهد وتعب وعمل محكم( ).
أمّا في معجم Rousse، فإنّه يورد تعريفاً للطّبيعة وشرحاً لها، إنّها: "تشكّل مجموع العالم الفيزيائي خارج شخصية الإنسان، وهي أيضاً مجموع القوانين التي تظهر متحكّمة في الأشياء والذّوات، أو هي أنموذج حقيقي، يتجسّد أمام الفنّان كالرسّم، كما أنّ الطّبيعة، تعني عدم الإضافة أو الخلط. والطّبيعي صفةً هو التلقائي... وهو الذي لا يصدر عن فعل الإنسان وعمله، أو هو العادي، وغير المتبدّل. أمّا الطّبيعي اسماً، فهو مجموعة الميولات والطّبائع تميّز شخصاً ما"( ). وهذا التّحديد، لا يخرج من مجمله، عمّا جادت به المعاجم العربية القديمة، إذ يعلن أنّ الطّبع صفة راسخة، وثابتة، وتلقائية، ينفرد بها واحد من الآخرين. والعادة فيه هي أساس تمثله.
إنّ هذه الدّلالات التي تشكّل في ضوئها مصطلح الطّبع، توحي إبداعياً، أنّه منعزل عن وعي الشّاعر،وكأنّه إحساس ناتج عن انفعال عادٍ وردّ فعل فقط، ولكنّه يبقى متضمناً لمعنى العلامة، وكذلك أنّ الموهبة موجودة سلفاً. فليس الشّاعر بحاجة إليه، ولا إلى القدرة. فالطّبع تجربة غير مختارة، سمته العفوية التي تملك كلّ اللّحظات، وبالتالي لا يبدو مجرد ميل إلى شيء من الأشياء، ولكنّه، لا يمكن الاستغناء عنه، فإنّ الفارابي في حديثه عن امتلاك الفرد للسيادة والجاه والسّلطان، يرى أنّ الإنسان لا يكون رئيساً أو إماماً للمدينة الفاضلة، إلاَّ إذا اجتمعت فيه خصال طبع عليها وجبل، تؤهلّه، لأن يسود أو يكون مثالاً يحتذى، ومنها: "أن يكون بالطّبع جيّد الفهم والتّصوّر لكلّ ما يقال له، فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل وعلى حسب الأمر نفسه... ثمّ أن يكون حسن العبارة، يواتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره إبانة تامّة"( ). فإنّ فعل (يواتيه) سمة في طبع تواصله، فضلاً عن حضور البديهة في المنطق، كيفما يكون الوضع والمقام، وذلك يجنّب التّلعثم والتّعقيد. والفارابي، عندما يتحدّث عن علاقة الفرد بالمجتمع، يشير إلى أنّه اجتماعي بالطّبع، أي مطبوع على الاجتماع، مفطور عليه، في ضوء الحاجة والتّعاون، لبلوغ الكمال.
من خلال التصورات والتّحديدات القرآنية والمعجمية السابقة لمادة (ط ب ع)، يظهر بجلاء مبدأ التّباين في ضبط المصطلح، وأنّ الاستدلال على الطّبع، ينطوي على خصال شخص ما، تتوافر فيه شروط، يتضافر فيها الأخلاقي والاجتماعي والجمالي. وتبقى القدرات الخارقة محكاً حقيقياً للطّبع والمطبوع. أمّا الخلط بين صفات الطّبع والطّبيعة والمطبوع، فإنّ لذلك تأثيراً في آراء النّقاد وموثوقاتهم الذّوقية والمعرفية، فيضطرب أحياناً المفهوم، ممّا يؤثر في بيان النّص. ذلك أنّ الرصيد المعجمي للمصطلح، يفتقد إلى الدّقة في إيضاح خصوصيات الطّبع في صلته بالخطاب الشّعري، وتلك التفسيرات التي تتأسس على الغيبي في صورتي الوحي والإلهام.
فإلى أي مدى، يمكن لمصطلح الصّنعة أن يخرق الطّبع كأصل وبداية، وهل لهذا الخرق فعل في تفعيل الإبداع الشّعري وتوسيع آفاقه ومضاعفة عناصر الجاذبية والتشويق فيه؟
2 ـ الصنعة/ خرق المقضي
هل كان التحليل المعجمي لمادة (ص ن ع) أكثر ضبطاً وتخصيصاً من تحديد دلالة الطبع؟ وكيف تمّ نسج هذا المفهوم وتصوّره؟
ورد في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم 0ص 414، 415) لفظ (صنع) في هيئات اشتقاقية مختلفة ومتنوعة، عشرين مرّة. تارة ينسب فيها الفعل إلى الله تعالى (كقوّة خارقة ولا نهائية) وحيناً آخر تكون النسبة إلى الإنسان الأرضي.
نسب الفعل إلى الله في قوله: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى* وَاصٍطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (طه: 40 و41) وقوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسِ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بِأْسِكُمْ (الأنبياء: 80)، أي كيف أنّه علم النّبي داود صنعة الدّروع لتقيه وأصحابه من ضربات السّيوف وطعنات الرّماح في حربهم ضد خصومهم من الأعداء، فتحصنهم من الحصن، وهو الجدار المنيع. وقوله تعالى: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ النّمل: 88. إنّ صيغة (ص ن ع) في الآيات القرآنية ارتبطت بالإرادة والإتقان والعمل والعلم. أمّا بقية الصّيغ الواردة في الذّكر الحكيم، فإنّ الإنسان فيها هو الصانع، بمعنى الإرادة والقصد والتّنفيذ والاختراع، مثل ما صوّر مسؤولاً عمّا يقترف من ذنوب وآثام، نحو قولـه تعالى: وحبط ما صنعوا فيها هود 16، إنَّ الله خبير بما يصنعون فاطر 8. وقد تحمل هذه المادة الصّرفية دلالة الاختراع والبناء، بوحي من الخالق المطلق، نحو: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُننَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْني في الَّذينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ هود: 37. وأنّ الله هو الذي يلهم الإنسان فكرة صنع الشيء وإحكامه: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُننَا وَوَحْيِنَا المؤمنون 27.
إنّ مادة (ص ن ع)، هنا، تعني التّنفيذ من قوّة مطلقة هي الله. والقصد من هذا التّنفيذ تأسيس الشّيء وبناؤه، وفق تصوّر مسبق يتضمن فائدة وحضارة، كقولـه تعالى: وَتَتَّخِذَونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ الشعراء: 129. والمصانع التي تعنيها الآيات الكريمة هي الحصون والقصور المشيّدة، وغيرها من المباني العمرانية الأرضية، التي يتخذها الإنسان السفلي دعائم لوقايته وهنائه.
والدّلالة الدّينية، لصيغة (ص ن ع)، ترمز إلى مسؤولية الإنسان فيما يعمل ويسلك وينتج، وترتبط بشرط الإتقان والإحكام (البراعة). وقد أكّد الله تعالى أنّ إتقانه كامل ونهائي. وهذه الدّلالة العقائدية، لم ينتبه إليها النّقاد في حكمهم على حضور الشّاعر في تأليفه وتشكليه لأبياته، من حيث الاستهجان أو الثناء، فحكّموا أذواقهم ومراتب قراءاتهم في مشروعاتهم النّقدية،على الرّغم من أنّهم كانوا على دراية بأساليب القرآن وبلاغته وتفسيره. وفي ضوء الآيات القرآنية، التي وردت فيه صيغة (ص ن ع)، يتبيّن أنّ الصّنعة مطلقة عند الله، ونسبية عند الإنسان في حين أنّ الطبع مطلق لتعلّقه بالخالق. والصّنعة، هي ردف للممارسة، وشرط الممارسة الدربة والمران والنظر والسلطان على الشيء وتنقيته ممّا يشوبه.
وجاء في لسان العرب أنّ صيغة (ص ن ع) بمختلف تشكلاتها ومنها: صُنْع، الصناعة، الصنعة، صنيع، صنّع، صناع، صَنْع، تدلّ على العمل، وما يؤكّده من مهارة وحذق وقيام وتجربة وإظهار وبيان، كقول حسّان بن ثابت:
أهدَى لهم مَدِحي قلبٌ يؤازره
فيما أراد لسان حائِك صَنَعَ
في حين أنّ (التّصنّع) يعني تكلّف الشّيء وإظهار ما ليس فيه( ).
وفي مجال الإبداع الشّعري، فإنّ العمل كجهد وسعي وتولّي القول، وفعله بقصد، من مرتكزات الصنعة وأساسياتها، فلا صنعة جمالية بدون جهد ونظر وتمييز واختيار، إذ الغرض من إتقان الكتابة الشّعرية وإخراجها إخراجاً حسناً وجيّداً في مقابل الإنتاج العفوي، الذي لا يتوافر فيه شرط الإتقان بشكل كاف.
ويرتبط مفهوم الصنعة بالعمل والحذق، إذ أنّ: "الصّاد والنّون والعين أصل صحيح واحد، وهو عمل الشيء صنعاً. وامرأة صناع ورجل صنع، إذا كانا حاذقين فيما يصنعان"( ).
وفي الشّعر، فإنّ (صنَعٌ) تعني المهارة وبلاغة القول، فلا فرق بين براعة اليدين وبراعة الكلام والتّأليف. أمّا مادة (ص ن ع) في كتاب (النّهاية في غريب الحديث والأثر)، فإنّها جاءت دالة على مسؤولية العمل أخلاقياً واقتصادياً، من حيث ضمان العيش بعمل اليد، وتعني صنع الطّعام وتحضيره، كما تعني صوغ الشيء صوغاً جيّداً، كتشكيل الخاتم من الذّهب، وإنشاء الحصون والمباني( ). فالصّنعة هي التّعهد واكتساب التّجربة والدّربة في مقابل العدم واللاّحركة، وهي بذلك تتجّه إلى كيفية إنجاز العمل، مهما تكن طبيعته. ولذلك، فإنّ مادة (ص ن ع)، عموماً هي فعل يصدر عن الإنسان ـ وإن كان أحياناً بإيعاز من غيره، كما هو الحال في بعض الآيات القرآنية ـ، سواء دلّ على سلوك أو حالة أو مادة أو بناء.
وفي حالة البناء، بضربيه الجمالي والعمراني، تعدّ الصّنعة صنو الإتقان والإجادة والتّحكم، مثلما يصنع السّوار، أو يشيّد القصر ويقام الحصن، فتكون الإثارة والدّهشة. وقد ينسحب هذا التفسير الصّناعي على الإبداع الشّعري، الذي شرطه الإحكام والتّصميم الدّقيق والمتابعة، مثل ما هو الحال في قول الخليل بن أحمد: "وفرس صنيع، أي: قد صنعه أهله بحسن القيام عليه القول: صَنَعَ الفرس، وصنّع الجارية تصنيعاً، لأنّه لا يكون إلاّ بأشياء كثيرة وعلاج"( ).
إنّ في كلام الخليل إشارة واضحة إلى الجهد المبذول في ترويض الشيء ـ كما يروّض الحيوان ـ وتثقيفه وصقله، وأنّ استخدامه للفظ (علاج) دليل على الذّكاء والفطنة والتّمييز، والوقوف على حقيقة الشيء لإصلاحه بعد عيبه ونقصه. فالصّنعة بحاجة إلى طاقة جديدة غير مسبوقة ـ إلاّ بمهيئات ـ ومبدعة، وهي بالتالي تنطوي على إمكانية الإبداعي. وهذه الصّنعة في مدلولها المعجمي، تنبعث من فعل اليدين في خفّتهما ورشاقتهما في حوك المادي ونسجه، يقول الخليل: "وامرأة صنّاع، وهي الصّناعة الدّقيقة بعمل يديها، ويجمع صوانع..."( ). وارتبطت الصنعة بالحسن، وهو متعلّق بالله تعالى الذي صنع فأحسن بإطلاق: "... وما أحسن صنع الله عنده وصنيعه"( )، فالصّنعة التي فيها اختيار وتعهد واختصاص في صنع الجميل، تعني العمل، والعمل يتضمن الحركة، والحركة علامة على الصّحة والقدرة.
ومن دلالات الصّنعة، الحضارة التي تكشف في عمقها عن فاعلية الفكر وجلائه وصوابه، وقابليته للارتقاء والتقدم، فهي: إذن، تغيّر نوعي في فكر الإنسان، واستعداده على كشف المخفي والغامض دون الوقوف عند حدود الوصف. يقول الزّمخشري: "والعرب تسمّي القرية والقصر: مصنعة، ويقولون هو من أهل المصانع يعنون القرى والحضر"( ) أمّا مجازاً، فإن، (صنع) هي القيام الجيّد على ترويض الفرس، كما تعني ثوب الجارية، فهو صنيع، لأنّه حسن. وتشير إلى السيف، فهو صنيع إذا تعهّده صاحبه بالجلاء، ويمثّل الزّمخشري لذلك، بقول الطرماح:
بماءٍ سماءٍ غادرته سحابةٌ
كمتن اليماني سلَّ وهو صنيع( )
إنّ مدلول الصّنعة، يتجسّد إبداعياً في جودة النّسيج، وما يشيع فيه من ألوان جمالية، متعلّقة بدرجة تحضر الشّاعر ونوعيته، انتظاماً وتناغماً. وهذه الحضرية المؤسّسة على صنع الشيء وبنائه، تتجلّى في قول لبيد:
بلينا وما تبلى النّجوم الطوالع
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع( )
فإنّ المصانع هي المادي المحسوس الّذي أبدعه الإنسان، وظلّ يحمل دلالات تفوقّه.
والصّنعة في كتاب (التّعريفات)، عمادها الاختيار والكيفية دون تأنٍّ، وهي ملكة مغروزة في النّفس، كما أنّها قائمة على جهد في زخرفة الشّعر، كحال صنعة التسميط، في قول ابن دريد:
لمّا بدا من المشيب صونه
وبان عن عصر الشّباب بونُه
قُلتُ لها والدّمع هام جَونَه
أما ترى رأسيَ حاكي لونُه
مُرَّةَ قُبحٍ تحت أذيال الدُّجَى( )
إنّ الشعر حالة وجدانية واعية، واستعداد نفسي تستخرج فيه الأشياء، دونما عناء، تتجلّى فيه الصّنعة في لحظة التّأليف بإتقان، فإنّ ابن دريد قد بنى شعره على التوافق الصّوتي: (صونه، بونه، جونه، لونه). وهذا التّوافق، من شأنه أن يعسف على الحفظ والتّغنّي، واستيعاب الدلالة ورسوخها في الذّهن.
إنّ مادة (ص ن ع)، يختلف مدلولها، وفق الصيغة الصّرفية، فإنّ تفعّل (ت ص نّ ع)، هي نقل المجرّد الثلاثي إلى وزن المزيد، وهي تكلّف الصّنعة من الفاعل لتحصل أو إظهار ما ليس في الشيء بالطّبع. أمّا الصّنعة في (المعجم الأدبي)، فإنّها لغةً: "كلّ علم أو فنّ مارسه الإنسان حتّى يمهر فيه يصبح حرفة له"( ). واصطلاحاً، تعني، أوّلاً، تحصيل الأديب على علوم قديمة بعينها، ومحاكاة الفحول، بالممارسة والمران، حتّى يكسب أسلوباً مميّزاً في إنشاء الأدب، وهي ثانياً، ذلك الجهد المصقول، الذي تجسّده براعة اختيار الألفاظ أو صياغة الكلام وتوشيته بضروب البديع، وإثرائه بالطريف من الأخيلة والمعاني. إلاّ أنّ هناك من النّقاد القدامى، من شرط وجوب أن يكون الجهد الحاصل خفيّاً مستوراً، لا يشعر به المتلقي، ومنهم من جعل الصّنعة مثيلاً للفن( ). فالصّنعة هي تعلم وتجربة وحرفة وممارسة منظمة، وإتقان وبراعة، لأنّها، لا تحصل، إلاّ بالتّعهّد، الذي يعدّ ركيزتها الأولى، وتبرز أكثر في الصياغة الجمالية. كما أنّ الصّنعة، لا تستوي دون صقل وتهذيب، وهما دليلان على أنّ الشّعر قبلها كان فيه اضطراب واختلال. لذلك، فإنّ الفن، هو جوهر الصّنعة، لما يمارسها الشّاعر المقتدر بإتقان، يعني أساساً معرفة الشّيء والوقوف عليه بيقين، بعد إحساس كبير بالعناء والبحث والتّقويم. إنّ الصّنعة عملية ذهنية/ جمالية تتوخى الابتكار، وطريقة يهذّب فيها الشعر ويصلح، قبل كشفه للآخر. من هنا فإنّها ترتبط بالحرفة، التي تستدعي دقة ونظراً وتأمّلاً، خلافاً، لذلك الشّعر الذي قد يعبّر عن مجرّد هواية أو ميل طارئ، مع أنّ القول إنّ الشعر حرفة، هو بمثابة رؤية قاصرة عن فهم الشّعر في صلته بالنفس البشرية، فهل مثلاً يمكن لهذه الحرفة من خلال الوزن والقافية أن تسود، فيصنعان التّجربة الشّعرية، بل الحقيقة الشّعرية؟ فمن الناحية الفلسفية، تعني الصّنعة: "الطريقة المنظمة الخاصة التي تتّبع في عمل يدوي أو ذهني"( ). إنّ هذه الطّريقة مقدّرة ومضبوطة، وليست افتعالاً أو تظاهراً، كما هو الحال في (مصنوع وتصنّع)( ).
ولا يوظّف أبو البقاء الكفوي في معجمه، لفظ (الصّنعة)، ويستعيض عنه بلفظ (الصّنع)، وهو: "تركيب الصورة في المادة"( ). والمادة لا تشكل وظيفة، إلاّ إذا تمّ نسجها في صورة فنّية، ولذلك، فإنّ الصورة، هنا، هي فعل الصّنعة وعملها ومتانتها. والصّنع يقابل التّصنع، الذي يعني فقط، الشّكل الخارجي، وبه تبلغ الزّخرفة مبلغاً فيه إفراط على حساب الغاية من الشّعر (جوهره).
كما يعتقد أنّه لا يبالي بالمضمون الذي يرجى من القول، لأنّه ليس مبدأ أساسياً، وهو أيضاً وضع الشّيء في غير موضعه الطّبيعي. وقد وظّف ابن رشد مصطلحي (الصّانع، الصّنعة) في بعدهما الفلسفي، للدّلالة على العلاقة بين الخالق وموجوداته، على أساس أنّ الشّرع، قد أجاز للعقل معرفة مصنوعات الله والحث على النّظر فيها، يقول: "إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النّظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع.. فإنّ الموجودات إنّما تدلّ على الصّانع لمعرفة صنعتها. وأنّه كلّما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصّانع أتمّ"( ).
وفي معجم (La Rousse)، فإنّ اشتقاقات (ص ن ع) هي الحرفة والحيلة، والبناء، والمنتوج النّاشئ عن تقنية بشرية، وليس للطّبيعة دخل فيها( ).
وما يسترعي الانتباه أنّ البحوث النّقدية العربية القديمة في تحقيقها للنصوص صحّةً ووضعاً، قد وظّفت لفظ (المصنوع)، ويعني الموضوع والشّك كما هو الحال عند ابن سلاّم الجمحي، إذ المصنوع هو الموضوع الذي يحتاج إلى فكر نقدي وذوقي عالم بالشّعر نافذ فيه، لاستخراجه تمييزاً لـه من صحيح النّسبة.
فقد ذكر ابن سلاّم أنّ خالد بن يزيد الباهلي سأل خلف الأحمر حكمه عن الأشعار التي تروى، فردّ: "هل تعلم أنت منها ما أنّه مصنوع لا خير فيه"( ).
كما أنّ المصنوع عند أبي العلاء المعرّي، هو ذاك الّذي، لم تجر العادة بمثله( ). والرّاجح أنّ الدّاعي إلى الاستدلال على الموضوع بالمصنوع، أنّ الصّنعة ارتبطت بتزيين الشّعر، كأداة لعدم القدرة على خلقه وابتداعه (طبع)، فأضحى (المصنوع) صفة للإنسان مشاكلة للزيف والكذب ومجافاة حقيقة الشّيء وصحتّه وأصله. وقد أفرد السّيوطي قسماً من (المزهر) خصّه بعنوان (معرفة المصنوع). ويظهر من الأمثلة التي أتى بها، على ألسنة اللّغويين والرّواة، أنّ المصنوع هو المنتحل( ). ومن أدلة ذلك، أنّه في (أمالي) ثعلب أنشد في وصف فرس.
ونجا ابن خضراء العِجان حويرثٌ
غليانُ أمّ دِماغِه كالزّبرَج
فقال أبو الحسن المهيدي للسيّوطي:
"هذا بيت مصنوع، وقد وقفت عليه وفتشت شعره كلّه فلم أجده"( ). كما أنّ أبا عبيدة أنشد لجرير قوله:
وخورُ مجاشع تركوا لقيطاً
وقالوا حِنوَ عينِكَ والغُرابَا
وصرّح بأنّ البيت مصنوع، وليس لجرير( ).
ولم يكتف السيوطي، بذكر الأبيات الشعرية المصنوعة وكشفها، بل أنّه تطرّق كذلك إلى ما قيل في الألفاظ المصنوعة (غير الفصيحة)، من ذلك أنّ ابن دريد في (الجمهرة) أشار إلى أنّ الخليل بن أحمد قال: "أمّا ضهيد، وهو الرجل الصّلب، فمصنوع لم يأت في الكلام الفصيح. وفيها: عفشج، ثقيل وخم، زعموا، وذكر الخليل أنّه مصنوع..."( ).
أمّا الصّنعة التي اقترنت بالحرفة والعمل والممارسة، فإنّها قد وردت بمعنى العيب، وقد أشار إلى ذلك النّابغة الذّبياني، بعدما علم بنقص شعره من الكمال، حين كشف أهل يثرب بأنّه يقوي، فقال:
"دخلت يثرب فوجدت في شعري صنعة، فخرجت منها وأنا أشعر العرب، أي وجدت نقصاناً عن غاية التمام"( ). والنّابغة بذلك، يريد أن يقنع متذوق أشعاره، بأنّه أصبح مطبوعاً (تامّاً)، وأنّه يمكن سماع شعره، إذ تحوّل بهذا التّقويم إلى مرجعية في الطّبع، والطّبع قد يخمد وتفتر طاقته. إنّ الصنعة هي العمل وما يتبعه من حضور وقصد وممارسة وإنتاج، إلاَّ أنّها أحياناً تفقد هذه الميزة البشرية المرتبطة بالإتقان والجودة، فتنقلب إلى عيب في الأحكام النّقدية التي تبحث في صحة نسبة الأشعار، كما أنّها إذا فقدت عنصر البراعة الفنّية، تتحوّل إلى تكلّف في تناول الشيء ونعته. ولكنّها في حقيقتها دلالة واضحة على قابلية الشّاعر، على تطوير أدواته الجمالية ونظرته إلى الذّات والآخر، إذ لولا هذا الوعي الذي توّلده الصّنعة لظلّ الطّبع كما هو دون نماء أو ارتقاء. وبذلك جاءت الصّنعة تالية للطّبع، غير متقدّمة عليه في أصل الإبداع، ودون أن تتسع الفواصل بينهما.
وإذا كان الطبع والصّنعة، هما أساس الكتابة الشعرية، فكيف فهم النّقاد العرب القدامى، الشّعر في ضوئهما؟ وهل أقرت بحوثهم بإمكانات خروج الطّبع على مداره؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى