قراءة أسلوبية في نص شعري
صفحة 1 من اصل 1
قراءة أسلوبية في نص شعري
قراءة أسلوبية في نص شعري
مقدّمة:
كوّنتِ اللسانياتُ الحديثةُ مادّةً خاماً تشكّلتْ منها و تطوّرت عنها مناهجُ جديدةٌ نظر كلٌّ منها إلى النّصّ الأدبيّ من جهة، إلاّ أنّها جميعاً تعتمدُ اللغةَ أساساً لها في قراءتها النصَّ الأدبيّ، فمن البنيوية بفروعها إلى التفكيكية و من الأسلوبيّة و التداوليّة إلى الشّعرية إلى السّيميائية.
و هذا التعدّدُ في المدارس اللسانية ما كان إلا إغناءً لتعدّدِ قراءاتِ النصّ الأدبيّ، إذ يمكنُ أن نتناولَ النصَّ من عدّة مناحٍ تبعاً للمنهج المُختار للقراءة، فبات النصُّ نصوصاً أخرى لم نكنْ لنراها إلا بعدسة تلك المدارسِ المتنوّعة.
و قد وقع اختيارُنا على الأسلوبيّة لما لها من رؤيةٍ عميقةٍ للنّصّ الأدبيّ إذ تتناولُه بلاغيّاً و جماليّاً و دلاليّاً، و بذلك تغدو مكوّناتُ الجملة تحملُ معانيَ مسطَّحةً، و أخرى عميقةً تصل إليها الدّراسةُ الجادّة.
فعمدْنا في بحثنا إلى قسمين، الأوّل نظريّ قُسّم أيضاً على قسمين: الأوّل تناولْنا فيه الأسلوبيةَ في نشأتها و مفهومها و كيفيّة تعاملها مع النّصّ الأدبيّ و كلّ ذلك حاولْنا فيه الاختصارَ لتكونَ المعلوماتُ مُوجزةً مفيدةً تحاولُ قدْرَ الإمكان تقديمَ مفهوم الأسلوبيّة بشكلٍ قريب. و القسمُ الثّاني تكلَّمْنا فيه على آلياتِ التحليل الأسلوبيّ، و أوضحْنا مصطلحاتِ ( الاختيار، التركيب، الانزياح ) حادينا فيه الإيجازُ و الدّخولُ إلى الفكرة مباشرةً و عدمُ الدّوران حولَها.
أمّا القسمُ الثاني من البحث فهو القسمُ الإجرائيّ، و قد طبَّقْنا فيه بعضَ آلياتِ التحليل الأسلوبيّ على نصٍّ للشّاعر المصري أمل دنقل، و قد وقعَ اختيارُنا على هذا النّصّ و هذا الشّاعر تحديداً لما عُرِفَ عنه من شُغْلٍ على اللغة، فتتداخلُ في نصّه العلاقاتُ بين الجمل و التراكيب لتشكِّلَ بنىً عميقةً تخدمُ المعنى العامَّ للنّصّ، و قد وقفْنا على بعض الخصائصِ الأسلوبيّة في النصّ مُحاولين دراسةَ الدّلالة المترتّبة على استخدامِها من مثل ( التقديم و التأخير، و استخدام الأفعال بأنواعها، و الضّمائر، و الألوان ... إلخ ).
و ختمْنا بحثَنا بخاتمةٍ حملتِ النتائجَ التي توصّلْنا إليها، ثمّ ثبتاً بالمصادرِ و المراجع التي أفدْنا منها في البحث.
و قد واجهْنا بعضَ العقبات في بحثنا، و لعلّ أهمَّها عدمُ الحصول على تطبيقاتٍ أسلوبيّة على نصوص أدبيّة، فكلُّ ما استطعْنا الاطّلاعَ عليه إنّما كان تنظيراتٍ أسلوبيّة. لذلك جهدْنا في فهم تلك التنظيرات و الخروج منها بفهمٍ متواضعٍ طبّقناه على نصّ الشّاعر أمل دنقل.
و بعد، فإنّ المرءَ ليكتبُ عملَه و يتعبُ عليه، و ما إن يمرّ عليه أيامٌ قلائلُ حتى تهاجمه جنودُ الرّغبة في تطوير عمله و الإضافة عليه و حذف شيءٍ منه، و هذا شأوُ الإنسان السّاعي أبداً – دونَ وعي – إلى الكمال الذي لا يُبلَغ.
و إنّا إذْ نستمتعُ بعناء البحث نتوجّهُ بالشّكر الجزيل إلى أستاذِنا الدكتور محمّد بصل الذي قدّم لنا كلَّ المساعدة الممكنة و التسهيلات في الحصول على الكتب، فجزاه اللهُ عنّا أحسنَ الجزاء.
و اللهُ من وراء القصد
زاهر جميل قط
اللاذقية 17 تموز 2005
أولاً : القسم النظري :
1- الأسلوبية بوصفها منهجاً :
إذا كان لكلّ إنسان بصمةٌ يختلف بها عن الآخر ( و إن تقاربت ملامحُ بعضها ) فإنّ الأسلوبَ بصمةٌ لصاحبه نستطيع أن نعرفَه من خلاله.
فالأديب و الكاتبُ عموماً يتخذ لنفسه طريقةً في الكتابة هي حصيلةُ ثقافته و فكره و معتقداته و ذائقته الجمالية، تأخذ شكلَها تباعاً بين أوراقه، فالأسلوب ( طريقةُ الكتابة أو الإنشاء أو طريقةُ اختيار الألفاظ و تأليفها للتعبير بها عن المعاني قصْدَ الإيضاح و التأثير ). (1)
من هنا اهتمّتِ اللسانياتُ الحديثة بدراسة هذا الأمر، فنشأ ما سُمِّيَ علمَ الأسلوب أو الأسلوبية، و عُدّتِ الأسلوبيةُ ابناً شرعياً للبلاغة ( 2 )، إلا أنّ البلاغة علمٌ معياريٌ يرسل الأحكام التقييمية و يرمي إلى تعليم مادته، بينما تنفي الأسلوبيةُ عن نفسها كلَّ معيارية و تعزف عن إرسال الأحكام التقييمية ( 3 )، كما يمكننا أن نلحظَ أنّ البلاغة تحددّ كيف يكونُ الكلامُ جميلاً ذا أثرٍ فنيٍّ فهي تعليمية، على حين أنّ الأسلوبية تتجه إلى النص بعد إنجازه لدراسة ميّزاته الأسلوبية فهي تنحو نحوَ التوصيف و تبتعد عن التقييم كشأن المناهج اللسانية الأخرى. و إذا كانت البلاغةُ ( علماً فيما نتلقّاه بالإحاطة و التعلّم و الإتقان من بحوثها و أبوابها و فروع ذلك – و هي فنٌّ في حسن استعمال هذه الوجوه لرفع قدرة الأداء على الإشراف و العمق و الإغناء و التأثير ) ( 4 ) فإنّ الأسلوبيةَ بوصفها منهجاً له ضوابطُه و آلياتُه كما يقول رومان جاكبسون ( بحثٌ عمّا يتميّز به الكلامُ الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، و عن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً ) ( 5 ) فهي تُعْنى بطريقة القول، و ما يعتريها من مجازٍ و تقديمٍ و تأخيرٍ و انزياح ... إلخ
إذاً نميّز هنا بين الأسلوب بوصفه طريقةً في التعبير، و الأسلوبية بوصفها منهجاً في قراءة النّصوص.
إنّ مقولةَ الأديب الفرنسي بيفون ( 1 ) : ( الرّجل هو الأسلوب ) تدلّ على أنّ اللغة في صياغتها و نظام الأفكار التي تحملها إنما تكشفُ عن شخصية صاحبها ( 2 ).
فالأسلوبُ هو ربطُ الألفاظ إلى بعضها لتشكّل نسيجاً يتسم بمميّزاتٍ تميّزه عن أسلوبٍ آخر، فهو حدَثٌ يمكن ملاحظتُه، ( إنّه لسانيٌّ لأنّ اللغةَ أداةُ بيانه، و هو نفسيٌّ لأنّ الأثرَ غايةُ حدوثه، و هو اجتماعيٌّ لأنّ الآخرَ ضرورةُ وجوده ) ( 3 ).
و قد تناول اللسانيون الأسلوبَ و الأسلوبية تحليلاً و تعريفاً، ولعلّ معظمَها يتفق على أنّ الأسلوبَ طريقةٌ في التعبير و استخدام اللغة، و الأسلوبية منهجٌ وصفيّ للنصوص يتكِئ على البلاغة و لا يقف عند حدودها بل يتخطّاها ليتخذ طابعاً علمياً له أسسه و قوانينه. و قد تأسست قواعدُ الأسلوبية على يد أحد تلاميذ دي سوسير هو ( شارل بالي ) ( 4 ) الذي يرى أنّ اللغة ( تتكون من نظامٍ لأدوات التعبير التي تتكفّل بإبراز الجانب الفكري من الإنسان، و ليست مهمة اللغة مقصورةً على الناحية الفكرية وحدها، بل إنّها تعمل أيضاً على نقل الإحساس و العاطفة ) ( 5 ). فدورُ الأسلوب يكون في إيصال أمرين اثنين: الفكرة و الإحساس، و غاية الأسلوبية هنا الكشف عن الخصائص الفنية المميّزة للنّص، و ربط هذه الخصائص و المميّزات بالدلالات المترتّبة عليها.
إنّ التعامل مع اللغة بتقنية معيّنة تقوم على إخراج المفردة عن معناها المعجمي إلى معنى جديدٍ ذي دلالة يشكّل جزءاً من الأسلوب الذي يتّسم به كاتبٌ ما، ( فالذي يقرأ الأدبَ و منه الشعرُ يدرك بسهولة أنه لعبٌ لغويٌ سواءٌ أكان لعباً ضرورياً تحتّمه إمكاناتُ اللغة المحدودةُ أم كان لعباً اختيارياً ) ( 6 ).
و هذا يعني أنّ المجاز يساعد على إيضاح القصد و التأثير، لذلك يلجأ الكاتب إمّا مضطرّاً إلى هذا لأنّ اللغة العادية لا تكفي لإيضاح ما يجول في نفسه، أو يتخذ هذا المجاز شكلَ التزيين الموظّف و هو ما أطلق عليه الدكتور محمد مفتاح ( لعباً اختيارياً ).
إنّ طريقة استخدام اللغة التي تقف الأسلوبيةُ على خصائصها تعطيها نفسَاً شعرياً، فالكاتب عندما يلجأ إلى أسلوب ٍما قاصداً منه التوضيحَ والتأثير إنّما يستعملُ الانزياحاتِ والاستعاراتِ وأشكالاً أسلوبيةً أخرى كالتكرار والتقديم والتأخير والرمز وغيرها، وهذا ما يجعل اللغةَ تنحو نحوَ الشعرية، يقول أدونيس: ( إنَّ الفرقَ بين لغة الشعر والنثر ليس في الوزن بل في طريقةِ استخدام اللغة، النثرُ يستخدم النظامَ العاديَّ للغة أي يستخدم الكلمةَ لما وُضعت له أصلاً، أمّا الشعرُ فيغتصب أو يفجّر هذا النظام، أي يحيد بالكلمات عما وُضعت له أصلاً )( 1 ). واضحٌ أنَّ أدونيس لا يقصد كلَّ النثر هنا، لأنَّ هناك نثراً يقومُ على اللغة الشعرية، وإنّما المقصودُ بالنثر هنا الذي يستخدم اللغةَ دون انزياح أو استعمال لأساليب البلاغة لأنّه لا يرمي إلى التأثير بل إلى الإيضاح وتبيان المقصود فقط. ومن جانب آخر نجد أنَّ هناك علاقةً قائمةً بين الأسلوبية والشعرية، فشعريةُ جاكبسون مثلاً تدرس ضمنَ نطاقٍ منحى أسلوبيّاً معيّناً يتمثّل هذا المنحى بالأسلوبية التي تقرّر أنّ ماهيّة الأسلوب تتحدّد بنسيجِ الرّوابط بين الطّائفتين التعبيريّتين في الخطاب الأدبي: طاقة الأخبار * وطاقة التضمين ( 2 ).
فالأسلوب الذي هو النسيج الجامع للمفردات يخبر ويضمِّن مقصدَه في إطارٍ من التأثير الذي يساهم في الارتقاء بعملية التفاعل بين المرسل والمتلقي.
2- آليات التحليل الأسلوبي :
إذا كان علمُ اللغة يدرس ما يقال فإنّ الأسلوبية تدرس كيفيةَ ما يقال مستخدمةً الوصفَ و التحليل ( 1 )، و على هذا الأساس يكون توجّهُ الأسلوبية نحو تحليل النص لاستكشاف العنصر التأثيري للأدوات البلاغية التي يوظّفها الكاتبُ في نصّه.
و المهمُّ الإشارةُ إلى أنّ التناول الأسلوبيّ إنّما ينصبّ على اللغة الأدبية لأنها تمثّلُ التنوّعَ الفرديّ المتميّزَ في الأداء بما فيه من وعيٍٍٍ و اختيارٍ، و بما فيه من انحرافٍٍٍ عن المستوى العاديّ المألوف بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية و التي يتبادلها الأفراد بشكل دائم و غير متميّز ( 2 ) .
تستند الأسلوبية إلى ازدواجية الخطاب حيث نجد مجموعةً من الألفاظ يمكن للمتكلّم أن يأتيَ بواحدٍ منها في كلّ جملة من جمل الكلام ( 3 )، و يمكن أن تقومَ واحدةٌ مكان الأخرى ،فاختيارُ المتكلّم و الكاتب ( المرسل ) هذه المفردةَ دون الأخرى يخضع لخصوصية أسلوبه، فتدرس الأسلوبية هذا الاختيارَ و تبيّن دلالتَه و أثرَه الفنيَّ في المرسَل إليه، فمجالُ الأسلوبية يكون مقتصراً على مكوِّنات النص الداخلية فلا يتعدّاها إلى ما هو خارجيّ من العوامل المؤثرة.
و ينطلق البحثُ الأسلوبيّ في مقاربته النصَّ الأدبيّ من المقولات الآتية:
الاختيار - التركيب - الانزياح
ً1- الاختيار :
يقصد به انتقاءُ المنشئ لسماتٍ لغويةٍ معيّنة بغرض التعبير عن موقفٍ معيّن ( 4 )، و هذا الانتقاء يجعل من الأسلوب عملاً واعياً لأنّ اختيارَ المبدع هذا اللفظَ أو التركيب دون غيره إنّما لأنّه أقدرُ على حمل مراده إلى حيّز الورق حسبَ تقدير هذا المبدع.
و للاختيار صورٌ متعدِّدةٌ ،فمنها ما يُختار على مستوى اللفظ أو المعجم و منها على مستوى التركيب ( النحو ) فيغدو الأسلوبُ بذلك استثماراً و توظيفاً للطاقات الكامنة في اللغة ( 5 ) .
و من صور الاختيار ما ينشأ من التعبيرات المجازية و هذا يتجاوز المفردة لينظر إلى التركيب مجملاً، فمن أمثلته قول بشارة الخوري:
انشروا الهولَ و صبُّوا نارَكمْكيفما شئْتُمْ فلن تلقَوْا جبَانا
يمكن أن نجدَ على محور الاختيار فيما يتعلّق بالتركيب ( صبّوا نارَكم ) بدائلَ كثيرةً مثل: أطلقوا، ارموا، اقذفوا، صبّوا ... إلخ، لكنّ الشاعرَ آثر( صبّوا) ظنّاً منه أنّ الفعلَ (صبّ) الذي يوحي بالغزارة يمكن أن يؤدّيَ المرادَ أكثرَ ممّا تؤدّيه بقيةُ الأفعال المنتظرة على جدول الاختيار.
2ً- التركيب :
يقوم التركيب بنظم الكلمات المختارة في الخطاب الأدبي متوسّلاً في ذلك بعمليتي الحضور و الغياب، الحضور للكلمات المختارة و الغياب للكلمات الأخرى المصفوفة في جدول الاختيار، و الدخول في علاقة جدلية أو استبدالية، فالكلمات الأخرى تتوّزع غيابياً في شكل تداعيات للكلمات المنتمية لنفس الجدول الدلالي ( 1 ).
( إنّ صورة الغياب هذه تعطي للأفعال معانٍ* إضافيةً لأنها بالنصّ دائماً حافّةٌ، كما تعطيها أيضاً قيمةَ الشهادة على أسلوبية الجملة ) ( 2 ).
فالتحليل هو دراسة الانسجام الحاصل بين المفردات و الأثر الجمالي و الفني الذي يتركه في ذهن المتلقّي، و على هذا يكون الأسلوبُ عند ( جاكبسون ) تطابقاً لجدول الاختيار على جدول التأليف أو التركيب ( 3 ).
إنّ الدّرسَ الأسلوبيّ لا يقف عند توصيف بنية التركيب في الخطاب الأدبي بل يستقصي من خلال ما يتفرّع عنها من أشكالٍ تعبيرية كالتقديم و التأخير و الحذف و الذكر و التعريف و التنكير ... إلخ فكلّ شكلٍٍ من هذه الأشكال هو خاصيةٌ أسلوبية ذاتُ دلالة خاصّة بتركيبها ضمن النّسق اللغوي.
3ً- الانزياح :
ورد مصطلحُ الانزياح كثيراً في الدراسات القديمة و الحديثة و اتخذ أكثر من تسمية منها الانحراف و العدول و الإبداع و التغيير و الخروج ... إلخ ( 1 ). و هو يُعدُّ مؤشّراً على أدبيّة النصّ و شهرته لأنّ الخروج عن النسيج اللغوي العادي في أيّ مستوى من مستوياته ( الصّوتي، التركيبي، الأسلوبي، البلاغي ) يمثّل بحدّ ذاته حدثاً أسلوبياً ( 2 ).
و الانزياحُ هو الرّكن الذي بني عليه جان كوهن كتابَه ( بنية اللغة الشعرية ) إذ عدّ الانزياح مبدأ الشعرية، و الانزياحُ لا يكون شعريّاً إلا إذا كان محكوماً بقانون يجعله مختلفاً عن غير المعقول ( 3 )، و هذا ما يتجلّى في علاقةٍ مفردةٍ ما مع المفردات الأخرى ضمن السّياق، فكلمة ( السّماء ) لا تشكّل انزياحاً إلا إذا أُسند إليها فعلٌ لم يعتدْ أن يُسندَ إليها مثل ( بكت ) ليتشكّل انزياحٌ يُسمّى في البلاغة استعارةً ،فعلاقة( السّماء) مع (بكت) يمكن دراستُها ضمن مجال الدّرس الأسلوبي، فوظيفتُه أي ( علم الأسلوب ) تبيانُ الوظيفة التأثيرية و الجمالية و الدّلالية لهذا الانزياح.
ثانياً: القسم الإجرائي :
نتناول في هذا القسم نصّ ( كلمات سبارتكوس الأخيرة ) لأمل دنقل، و سنحاول الوقوف على أبرز الخصائص الأسلوبية لتحليلها و دراستها، و سنعمد في دراستنا هذه إلى الوصف اللغوي المجرّد للمثيرات اللغوية ذات القيمة الأسلوبية، ثمّ وصف التأثيرات الفنية و الجمالية و الدلالية لتلك المثيرات، فالوصف الموضوعي ( يحددّ السمات المميزة للتراكيب النحوية عند كاتبٍ ما، ثمّ يعمل على اكتشاف ما إذا كانت هذه المميزات التركيبية النحوية – أو بعضها – ترتبط بالتنظيم الدّلالي للنتاج الأدبيّ ) ( 1 )، و استعنّا بالإحصاء الذي يقوم به الباحثُ الأسلوبيّ لرصد عدد المثيرات الأسلوبية و دلالتِها المترتّبة على ذلك التكرار.
1- الفعل و قيمته الدلالية * :
تنوّع استخدامُ الشاعر للجملة الفعلية، فقد جاء النصّ متحرّكاً بين الفعل الماضي و الأمر و المضارع.
لقد تكرّر استخدامُ الفعل الماضي سبعاً و ثلاثين مرّةً، على حين وردَ المضارعُ اثنتين و أربعين مرّةً، و جاء فعل الأمر ( بما فيه المضارع المسبوق بطلب ) اثنتين و عشرين مرّة. إنّ الإكثار من استخدام الفعل الماضي عموماً فيه دلالةٌ على الحاضر المَعيش، فالذي نراه متذمّراً من واقعه يلجأ إلى الماضي و مطيّتُه الفعلُ الماضي الذي يحمله إلى ذلك الزمن الجميل بالنسبة له. و تأتي صيغ الأمر بعددها المحصى – و هي الأقل – لأنّ القائل – و هو سبارتكوس – ليس واثقاً بالناس الذي رضُوا بحياة الاستعباد، و هو شبهُ يائسٍ لأنّ الفعل المضارع الذي تكرّر اثنتين و أربعين مرّةً يمكن تقسيمُه على فترتين، فترة الحاضر و حصّتُها خمسٌ و ثلاثون مرّة، و فترة المستقبل و حصّتها سبعُ مرّات، إنّ الفعلَ الحاضر يدلّ على الحركة ( يبتسم، يحملها، ينسج، يرثون ... ) و لعلّ المقام يحتاج إلى هذه الحركة وسطَ سكون الخائفين من القيصر، أمّا المستقبل فأفعاله الدّالة عليه قليلةٌ لأنّ وجودَه مهدّدٌ بالزّوال حسبَ رؤية سبارتكوس، لأنّ الاستبداد لن يشنقَ سبارتكوس وحدَه، و إنّما سيشنق كلَّ الثائرين، و بذلك يغدو المستقبلُ للموت و ليس للحياة، و لعلّ هذا يفسّر لنا كثرةَ استخدام الماضي و إلى جانبه المضارع الحاضر.
و يلفت نظرَنا هنا التوالي الكيفي للأفعال و ليس التوالي الكمّي، فالحركة الناتجة عن الأفعال و حدوثها تطبع مشاهد النص بالطابع الدرامي، فلا تعبّر الأفعال عن مقامها منفصلةً، و إنّما يشكّل كلُّ فعلٍ إلى جانب الأفعال الأخرى دراميةً عاليةَ الأداء في النصّ :
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ، إنّي أعترفْ
دعْني على مشنقتي ألثمْ يدَكْ
ها أنذا أقبّلُ الحبلَ الذي في عنقي يلتفّ ( ص 150 )
فالأفعال الواردة سابقاً فيها حركةٌ و صراع ،فمن الخطأ إلى الاعتراف إلى لثم اليد و التقبيل و التفاف الحبل ... إلخ. كما يمكن أن نجدَ المقابلةَ بين الماضي و المضارع ظاهرةً في أكثرَ من مكانٍ في النصّ :
قد أخطأتُ إنّي أعترف
إذا التقتْ عيونُكم ...يبتسمُ الفناء ..
سيزيفُ لم تعدْ على أكتافه الصّخرةْ
يحملُها الذين يُولدون في مخادعِ الرّقيقْ ( ص 148 )
و لعلّ هذه المقابلةَ مقارنةٌ يائسةٌ بين ماضٍ مطلوب و حاضرٍ ميئوسٍ منه، و العلائقُُ بين الأفعال هنا منطقيّةٌ، فالخطأُ في الماضي يقتضي الاعترافَ في الحاضر، و الالتقاءُ ( بما فيه من دلالاتٍ تحيل إلى الفرح غالباً ) قد يؤدّي إلى الابتسام.
و يبرز دورُ الفعل في استخدامِه على المستوى المجازي في تصوير المجرّدِ وتبيان هيئتِه ، كما في قوله (يبتسم الفناء- ينسج الرّدى) إذ يصبحُ الشّيءُ قابلاً للإبصار ، ومن اللافت للنظر هنا التخصيص في دلالة بعض الأفعال كما في قوله:
و جبهتي بالموتِ محنيّةْ
لأنّني لم أحنِها حيّه ْ ( ص 147 )
فالفعل (يحني) يُستخدم عادةً مع القامة، و الجبهةُ جزءٌ من القامة، فالتخصيص هنا حصر الانحناء لهذا الجزء المقدس في الإنسان. و قد اختار الشّاعرُ من محور الاختيار هذه المفردةَ لما للجبهة من شرفٍ و سموٍّ بالنسبة لجسم الإنسان، كما نجد بعضَ الأفعال عند أمل دنقل في هذا النصّ ممنوعةً من التعدّي إلى مفعولها مباشرةً، إذ يأتي بحرف جرّ لغايةٍ بلاغية:
( يعبرون في الميدانِ مُطرقين )
فاللغةُ تسمح له أن يقول ( يعبرون الميدانَ ) دون الحاجة إلى حرف الجرّ، و لكنّ ( في ) هذه و هي للاحتواء الظّرفي المكانيّ جعلتِ العبورَ صعباً لم ينتهِ، فلو قال ( عبَرَ الميدان ) عنى تحقُّقَ العبور، و لكنّ العبورَ مستمرٌ و غيرُ مُنتهٍ و هو عبورٌ يائسٌ لأولئك المسحوقين بين قطبيْ رحى القيصر.
نجدُ الاتساعَ أيضاً في استخدام الفعل ( ترفعون ) في قوله ( و لترفعوا عيونَكم إليّ ) فالأصلُ ( لترفعوا رؤوسَكم ) و العين جزءٌ من الرّأس، و رفعُها يقتضي رفعَ الرأس، و هو موقفٌ يبحثُ عنه سبارتكوس للوقوف ضدّ استعباد القيصر للنّاس.
كما نجدُ حضوراً لأفعال الحواسّ كما في :
فلنْ تشمَّ في الفروعِ نكهةَ الثّمرْ
فتقطعُ الصّحراءَ باحثاً عنِ الظّلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ و الرّمالْ
فمشاركةُ أكثرَ من حاسّةٍ يساهمُ في الإحاطة بالموضوع، فلدينا ( تشمّ، ترى ،الهجير الذي يحرّك حاسّة اللمس )، و الحواسّ – كما نعلم – وسائلُ العقل لإدراك العالم الخارجيّ، و استحضارُ هذه الحواسّ الثلاث يساعدُ في بناء موقفٍ أوعى، لمنع القيصر من قطعِ الشّجر و نصبِها مشانقَ.
وإنا لنمضى العمر سعيا لنشتري........ بأعمارنا عطرا يظل ..ونذهب
رد مع اقتباس رد مع اقتباس
#
20/08/2006 02:46 PM #2
زاهر جميل قط
* الملف الشخصي
* مشاهدة المشاركات
* رسالة خاصة
* مشاهدة مقالات المدونة
* زيارة الصفحة الرئيسية
* مشاهدة المقالات
زاهر جميل قط غير متواجد حالياً
شاعر مربدي زاهر جميل قط is on a distinguished road
تاريخ التسجيل
Feb 2004
الدولة
سوريا
المشاركات
95
معدل تقييم المستوى
7
رد : قراءة أسلوبية في نص شعري
2- الصّفة وقيمتُها الأسلوبيّة :
تُفسِحُ الصّفةُ مجالاً لتسلّلِ الأنا وظهورها سواءٌ أكانت هذه الصّفةُ مجازاً أم حقيقةً، فعندما أسمعُ شخصاً يقول ( ليلٌ طويل ) أستطيع أن أزعُمَ أنّه حزينٌ متعبٌ يعاني من أمرٍ ما.
وقد برز دورُ الصّفة في النصّ على مستويين: مستوى الصّفة المفردة الدّالة، ومستوى الصّفة مع نقيضها أو ما يمكن تسميتُه ( ثنائية ضدّية ).
- وظلّ روحاً أبديّةَ الألمْ
نلاحظُ دورَ الصّفة واضحاً في هذا التركيب، فهي البوابةُ التي تمرّ عبرَها الرّوحُ إلى الألم، فقد استطاعتْ أن تضطلعَ بهذا الدّور وتشكّلَ دلالةً على خلود الألم في تلك الرّوحِ المتمرّدة .
ويمكن أن تقومَ الصّفةُ بإظهار السّخرية والاستهزاء، وهذا محكومٌ بوضعها ضمن سياقٍ معيّن، فعندما أخاطبُ شخصاً أحبّه بالعظيمِ يكونُ الكلامُ مدحاً وتعظيماً، أمّا عندما أخاطبُ به عدوّاً فلا شكّ أنّني أُلبسُه ثوباً فضفاضاً من السّخرية، وهذا ما نجدُه في توظيفِ الصّفة في قول الشاعر:
- يا قيصرُ العظيمُ قد أخطأتُ إنّي أعترفْ
فالعظيمُ – وهي صفةٌ لقيصر – تحمل معنى التهكّم والنيلِ من شخصية قيصر الظّالم – ويمكنُ أن تقومَ الصّفةُ بدورٍ فاعلٍ في تحديد وجهة الدّلالة، فهي توفّرُ ميزةَ الاختصارِ والإيجاز، فعندما يقول:
- فلترفعوا عيونَكمْ للثّائرِ المشنوقْ
نلمحُ الصّفةَ ( المشنوق ) كأنّها تريدُ إخبارَنا أنّ الشنقَ مصيرُ الثائر، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يمكن أن نرى في إفرادها إحالةً إلى ضرورة ثورةٍ جماعية تضمنُ الخلاصَ من ظلم القيصر، فكلُّ ثائرٍ مفردٍ مشنوق ٌ.
واستحضارُ البدائل الممكنةِ من جدول الاختيار يقوم بدورٍ دلاليّ قويّ ضمنَ علاقاتِ الحضور والغياب، فيمكنُ أن نرى أنّ جدولَ الاختيار لهذا التركيب يحتوي على ( البطل، الرّابح، الشّهيد، المُنتصر ...) ولكنّه اختارَ من جدول الاختيار هذا مفردةَ المشنوق، وجعلها ضمنَ جدول التركيب ليجعلَ من الشّنق مصيراً قابلاً للتغيير، وهذه القابليةُ تثيرُها البدائلُ الغائبةُ في جدولِ الاختيار.
ومن جانبٍ آخرَ نجدُ الصّفةَ تدخلُ في مزاوجةٍ ضدّية يعملُ الشّاعرُ على إثارتِها للتحريض والتأثير: - المجدُ للشّيطانِ معبودِ الرّياحْ
إنّ لفظةَ (معبود) تحرّضُ في الذّهن للوهلة الأولى غالباً ( الإله )، ولكنّه هنا نعَتَ بها الشّيطانَ في إشارةٍ إلى الصّراع القائم بين الخير والشّر، بين الشّيطان والله، ولكنّ الرّياحَ هي القائمةُ بهذه العبادة.
ـ فخلْفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ قيصرٌ جديدْ
تنهض المقابلةُ بين الصّفتين هنا ( يموت، جديد ) ٍعلى فكرة الاستمرار والاتّحاد بالزّمن للدّلالة على هيمنةِ النّظام الاستعبادي القائم على أساسِ رضوخِ الناس وسكوتِهم.
من الملاحظِ أنَّ الخطابَ عندما يكون موجّهاً إلى القيصر تكون الصّفاتُ منتميةً إلى حقلٍ دلاليّ واحد ( الإسكندر العظيم - قيصر العظيم – شرابك القوي – قيصر جديد – يا سيد الشواهد البيضاء ) إذ يمكن أن نلاحظ أنّ هذه الصفاتِ جميعَها جاءت في إطارٍ إيجابيّ تجاهَ القيصر، فكلُّ هذه الصّفاتِ صفاتٌ جيّدةٌ إيجابية، وبالمقابل نجدُ الموصوفاتِ - غيرَ القيصر - قد وُصفتْ بصفاتٍ قابلةٍ للضّعف والسّلبية ( الثائر المشنوق – دمي الشّهيد – الظمأ الناري – روما المجهدَة – الزينة المعربدة – قرطاجة العذراء تحترق ) فتكون الصّفةُ ضمن هذه المقابلة قد جسّدتِ الصّراعَ الحقيقيَّ القائمَ بين الحاكم المتسلّط و المحكوم الضّعيف.
ونشير أيضاً إلى أنّ النعتَ بالاسم الموصول وردَ تسعَ مرّات في النص، والاسم الموصول لا يأتي في الجملة وحيداً فلا بدّ له من جملة صلة تتمّم معناه:
( يا إخوتي الذين يعبرون – طفلي الذي تركته – الحبل الذي يلتفّ – مجدك الذي يُجبرنا – الكأس التي كانت عظامُها جمجمتَه ...) ففي المكان الذي يتسع للسّرد والتوضيح كان يستخدم الصّفةَ عن طريق الاسم الموصول مع صلته كما نلحظ أنّه كان يستعمل الاسمَ الموصول لموصوفات متقابلةٍ ضدّياً أيضاً، ويمكن أن نمثّلَ ذلك بالشّكل الآتي :
أ ب
- يا إخوتي الذين يعبرون - مجدُك الذي يُجبرنا أن نعبدَك
- طفلي الذي تركته - الحبل الذي في عنقي يلتفّ
- في اللحظة التي استرحْتَ - الكأس التي كانت عظامُها جمجمتَه
بعدها مني استرحْتُ منك
فالمقابلةُ تقوم بين المجموعة ( أ ) التي يجمعُ بينها الشّيءُ الذّاتيُّ القريبُ من المتكلّم، وبين المجموعة ( ب ) التي يجمع بينها خيطُ التسلّط المتمثّل بالآخر الظّاهر، وهذه المقابلاتُ شكّلت أفقاً مفتوحاً للقراءة.
3- النفي ودلالته :
أسلوبُ النفي : أسلوبٌ خبريٌ ينفي حكماً إيجابياً، والمقصودُ بالإيجابية هنا الحصولُ، فقولي ( لم أخسرْ ) لا يعني أنّ ( لم ) تنفي الحكمَ الإيجابيَّ ( تخسر ) من زاوية المعنى، فالدلالةُ للخسارة عموماً دلالةٌ سلبيةٌ، ولكنّ الإيجابيةَ المقصودةَ هي الحصول، ونفيُ الحكمِ الإيجابي أي عدمُ الحصول. وقد استعمل الشّاعرُ النفيَ ستَّ عشرةَ مرّةً، تنوّعَ بين نفي الفعل ونفيِ الاسم، ونحن في إحصائنا هذا لا نقدّم شيئاً ما لم نحلّلْ ونبيّنْ معنى هذا العدد فلم يعدِ الأسلوبُ مجرّدَ بحثٍ في جدولٍ إحصائيّ صامت، بل إنّه اتصل بالعملية الإبداعية من بدئها إلى نهايتها ( 1 ).
يمكن لنا أن نلاحظَ أنّ معظمَ أدواتِ النفي قد جاءت في صيغٍ دالّةٍ على الضّعف والخسارة ( لا يروي، لا يرتوي، بلا وداع، تركْتُ طفلي بلا ذراع، لم يغفرْ، ليس ثمّ من مفرّ، لن تشمّ في الفروع نكهةَ الثّمر، لا ترى سوى الهجير، لم يأتِ ... إلخ ) فكلّ المنفيّات الواردة إنّما هي من الأشياء التي يشتهيها الإنسانُ ويريدُها, فدورُ أداةِ النفي هنا الوقوفُ حائلاً مانعاً بين المرءِ ومرادِه، فهي تقوم بدورٍ دلاليّ مرتبطٍ مع أجزاء النّص الأخرى في دلالتها على الضّعف والانهزام أمام قوى القيصر الباغية.
4- التقديم والتأخير :
إنّ التقديمَ والتأخير ظاهرةٌ أسلوبية تتجلّى في الأعمال الأدبية ولاسيّما الشّعرية أكثرَ ممّا تظهر في الكلام العاديّ، فالشّاعرُ أو القاصّ أو الرّوائيّ يقدّم و يؤخّر بين مفردات النّسق الواحد وفقَ ما تسمح به اللغةُ والنحو.
فالتقديمُ والتأخيرُ يؤدي غرضاً بلاغياً، فهو يستمدّ أثرَه من السّياق الوارد فيه، ( فالسّياقُ اللغوي يشرف على تغيير دلالة الكلمة تبعاً لتغيير يمسّ التركيب اللغوي كالتقديم والتأخير في عناصر الجملة، فقولنا " زيدٌ أتمَّ قراءة الكتاب " تختلفُ دلالتُها اللغويّة عن جملة " قراءةُ الكتاب أتمّها زيدٌ ") ( 1 )، إذاً لا بدّ أن يكونَ هناك دلالةٌ تنطوي على استخدام هذه الخاصيّة الأسلوبية ( لأنّ وصفَ النظامِ التركيبي للشّعر، أو تحديد البناء النحوي للجمل فيه مع ضرورته، وشدّة الحاجة إليه لا يمكنُ أن يتمَّ دون أن يرتبطَ هذا بما تؤدّيه من دلالةٍ لأنّ عزْلَ النّظام النّحوي عن الشّعر لا معنى له ) ( 2 ).
وقد برزتْ هذه الخاصيّةُ في النّصّ ما يزيد عن ثماني مرّات، وقد عُهِد عن هذه السّمة أنّ التقديمَ يكونُ للعنصر الذي يريدُ الباثُّ لفتَ النّظرِ إليه، فالمقدَّمُ عادةً هو الأهمّ، ويمكننا أن نلحظَ في الاستعمالاتِ الستّة الآتية أمراً ذا علاقةٍ بالنسيج العامّ للنصّ: ( معلّقٌ أنا – وجبهتي بالموت محنيهْ – لم تعدْ على أكتافه الصّخرة – والعنكبوتُ فوق أعناق الرّجال ينسج الردى– أمنحك بعد ميتتي جمجمتي – تصوغ منها لك كأساً لشرابك ) نلاحظ أنّ المقدَّماتِ هي ( معلّق، بالموت، على أكتافه، فوق أعناق، بعد ميتتي ) وهي دوالّ على القهر والسّلطة الممارَسة على الإنسان، فالشاعرُ أراد تقديمَ حالةِ القهر التي تصيبُ الإنسانَ وذلك للتنبيه والتوعية. حتى إنّ حرفَ الجرّ ( على ) يفيدُ الاستعلاءَ، والظّرف ( فوق ) فيه معنى الاستعلاء وهما معنيان مساعدان في رسم أفق السّلطة وممارساتِها.
5- التكرار وقيمته الأسلوبية :
انتشرتْ ظاهرةُ التكرار في الشّعر الحديث كثيراً واتخذت دورَها في بناء النصّ. فالتكرار ليس ضرباً من الترف، بل له وظائفُه الفنيّةُ المساهمة في إبراز الجوانب المهمّة التي يريد الشاعرُ قولَها.
وأسلوبُ التكرار يحتوي على كلّ ما يتضمّنه أيُّ أسلوبٍ آخر من إمكاناتٍ تعبيريّة، ( والقاعدةُ الأوّليّة في التكرار أنّ اللفظَ المكرَّرَ ينبغي أن يكونَ وثيقَ الصّلة بالمعنى العامّ، و إلا كان لفظيّةً متكلّفةً لا سبيلَ إلى قبولها) ( 1 ).
والغالبُ أنّنا عندما نكرِّرُ أمراً نريدُ بهذا التكرار الإشارةَ إلى أهميّته والتنبيه إليه، أو تأكيد الكلام ...
نلاحظ أنّ التكرارَ في النصّ جاء على شكلين: تكرار كلمة وتكرار جملة.
وهذا التكرارُ للكلمة والجملة انقسم بدوره على تكرارٍ منفصلٍ وآخرَ متصلٍ على النحو الآتي:
- تكرار متصل كلمة
جملة
- تكرار منفصل كلمة
جملة
نبدأ بالتكرار المتصل للكلمة، في الوحدة الأولى يكرّر الشاعر( مَنْ ) ثلاثَ مرّات في ثلاثِ جمل، المرّتان الأولى والثانية جاءت كلمة ( مَنْ ) اسماً موصولاً، وفي الثالثة جاءت اسماً للشرط الجازم، و( مَنْ ) في الحالات الثلاث هي للعاقل، وهذا العاقلُ هو المعنيُّ بالخطاب ( مَنْ قال – مَنْ علّم ) موصول
( من قال لا فلم يمتْ ) شرط
إنّ التكرار لـ ( مَنْ ) الدّالة على العاقل في مطلع القصيدة هو بحثٌ عن ذلك العاقل الغائب وسطَ حالةِ الرّضوخ، وتكرارُ( مَنْ ) متصلةً هو محاولةٌ ملحاحةٌ للقاء هذا العاقل خصوصاً إذا وجدنا الفعلين ( قال، علّم ) قد نُسبت إليهما ( مَنْ ) وهما يجمعان القول والفعل .
كما نلحظ تكرارَ كلمة ( الوجود ) في سطرٍ واحدٍ مسندةً مرّتين إلى فعلين متضادّين ( وهل ترى منحتَني الوجودَ كي تسلبَني الوجودْ )
كلمة (الوجود) ليست سطحيةً في دلالتها على الوجود فحسب، بل تحمل دلالةَ الحرية وتحقيق الحياة المنشودة، وفي التكرار نلمح ظمأً لهذا الوجود المتصارع مع الفعلين ( منح ) ونقيضه ( سلب )، والفاعل في كليهما هو القيصر، فيغدو تكرارُ الوجود المنشود حالةَ بحثٍ عن تحقيق الوجود الفعلي، وتحقيقُ الوجود وعدمُه في يدِ القيصر.
ونجده يكّرر كلمةَ ( انتظرته ) مرّتين أيضاً، ودونَ فاصلٍ بينهما:
( فأخبروه أنّني انتظرْتُه انتظرْتُه )
نعلم أنّ الانتظارَ في الأمور الكبرى يستدعي امتلاكَ الانفعال والصّبر وزمامِ النّفْسِ جيّداً، والإنسانُ يكرّرُ كلماتٍ كهذه عندما يعاني من جرّاء ما عاشه لحظةَ الانتظار، فعندما يعبّرُ يجدُ أنّ ما حصل داخلَه أكبرُ أضعافاً من الفعل الحاملِ للمعنى الحاصل، فيلجأ إلى التكرارِ عساه يحتوي الجزءَ الأكبرَ من الحقيقةِ المنداحةِ في النّفْس.
أمّا فيما يتعلّق بالتكرار المتّصل للجمل فإنّنا نجدُه مرّتين:
وإنا لنمضى العمر سعيا لنشتري........ بأعمارنا عطرا يظل ..ونذهب
رد مع اقتباس رد مع اقتباس
#
20/08/2006 02:47 PM #3
زاهر جميل قط
* الملف الشخصي
* مشاهدة المشاركات
* رسالة خاصة
* مشاهدة مقالات المدونة
* زيارة الصفحة الرئيسية
* مشاهدة المقالات
زاهر جميل قط غير متواجد حالياً
شاعر مربدي زاهر جميل قط is on a distinguished road
تاريخ التسجيل
Feb 2004
الدولة
سوريا
المشاركات
95
معدل تقييم المستوى
7
رد : قراءة أسلوبية في نص شعري
يقول في الأولى:
و إنْ رأيْتُمْ طفليَ الذي تركْتُهُ على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناءَ
علّموه الانحناءْ ( ص 149 )
و قد ورد هذا التكرارُ في الوحدة الثانية من القصيدة في مرحلةٍ بدأ اليأسُ فيها يتسلّل إلى نفس سبارتكوس، و الهاءُ في الفعل ( علّموه ) عائدةٌ إلى طفل سبارتكوس، فهو بعد أنْ تمرَّدَ ضدّ الطّغيان خُذِلَ من قِبل الناس، و نهايتُه كانت على المشانق، فسخطُه على الواقع جعله يخشى على ابنه من بعده، فلا يريد له أن يكونَ ثائراً كأبيه، فلم يكتفِ بمرّةٍ واحدةٍ للدعوة إلى تعليم الانحناء، فتكرارُها دالٌّ على أنَّ الحياةَ تكونُ في عهدِ القيصر مقرونةً بالانحناء، و عدمُ الانحناء فيه تعريضُ النفسِ للموت، و قد كرّر الشاعرُ الجملةَ نفسَها في آخرِ النّصّ ثلاثَ مرّاتٍ متتالية.
يقول: و إنْ رأيْتُمْ طفليَ الذي تركْتُهُ على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناءَ
علّموه الانحناءَ
علّموه الانحناءْ ( ص 153 )
لقد وصل القائلُ ( سبارتكوس ) هنا إلى انكسارِه الأخير، فجاء التكرارُ صورةً عن هذا الانكسار الملوّنِ باليأس، و هذا التكرارُ للجملة متصلٌ، إذ لا فاصلَ بين الجمل الثلاث، فهو يشبه نهايةَ أغنيةٍ عندما يكرّرُ ملحّنُها جملةً أكثرَ من مرّة إلى أن يتوقّف اللحنُ.
و لنا أنْ نتصوّرَ أنّ القائلَ لجملةِ ( علّموه الانحناء ) بتكرارها جعلَنا نحسُّ أنّه مع كلّ تكرارٍ ينحني نحو الأرض، فالتكرارُ الأخير يختلف عن الأوّل و الثاني، إذ صار الأخيرُ حالةَ سقوطٍ و ارتطامٍ بالأرض على أنّ الأوّلَ كان بدايةَ الانحناء، و الثاني دلّ على زيادةِ الانحناء، و جاء التكرارُ الثالثُ ليسقُطَ معه سبارتكوس و حلمُه.
و في التكرار المنفصلِ نجد الشّاعرَ استخدمَ كلماتٍ كرَّرَها في مواطنَ متباعدةٍ و جملاً كرّرها أيضاً في مواطنَ متباعدة.
و من الأمثلة على تكرارِ الكلمةِ المنفصلِ قوله:
1- فلترفعوا عيونَكم إليّ
2- لربّما إذا التقَتْ عيونُكمْ بالموتِ في عينيّ
3- يبتسمُ الفناءُ داخلي لأنّكمْ رفعْتُمْ رأسَكَمْ مرّة ( ص 148 )
الكلمةُ المقصودةُ بالتكرار المنفصلِ هي الفعلُ ( رفع ) مسنداً في المرّة الأولى إلى واو الجماعة و في الثانية إلى تاء الفاعل المُتّصلِ بها ميمُ الجمع، و الملاحظُ أنّ بين كلّ تكرارٍ و آخر سطراً قام بمهمّة التعليل و التوضيح، فرفْعُ الرّأسِ و ما فيه من رفعةٍ و شموخٍ أصبح صعْباً في عهد القيصر، و القائلُ في دعوته هذه دعوةٌ للحياة بشموخٍ، و لأنّهم لا يسمعون كلامَه – كما هو واضحٌ – يحاول التعليل، فيتخذ التكرارُ هنا شكلَ طلبِ الشّيء المفقودِ المشكوكِ بعودته في ظروفٍ كهذه.
يقول:
و في المدى " قرطاجةٌ " بالنارِ تحترق
" قرطاجةٌ " كانتْ ضميرَ الشّمسِ قد تعلَّمَتْ معنى الرّكوعْ
و العنكبوتُ فوقَ أعناقِ الرّجالِ
و الكلماتُ تختنقْ
يا إخوتي : قرطاجةُ العذراءُ تحترقْ ( ص 153 )
نلمحُ ثلاثةَ تكراراتٍ لقرطاجة مسندةً إلى الفعل ( تحترق ) مرّتين و إلى فعلٍ ناقصٍ مرّة، فقد كانت قرطاجةُ تمثّلُ الحقَّ في مقابل روما التي تمثِّلُ الباطل ( 1 ).
و مع احتراقِ قرطاجةَ يحترق حلمُ سبارتكوس، فالتكرارُ هنا يحملُ الألمَ و الحسرةَ، و يؤكّد هذا تكرارُ الفعل ( تحترق) معها، فنحن نعرف ما يسبّبُ الاحتراقُ من ألمٍٍ، و لعلّه أقسى الألم.
أمّا فيما يتعلّق بالتكرارِ المنفصلِ للجملة فقد وردتْ أربعُ جملٍ تكرّرَتْ بشكلٍ متباعد :
يا إخوتي الذين يعبُرون في الميدانِ مُطرِقين ( 147 )
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدانِ في انحناء ( 152 )
نلاحظُ كيف غيّر في الجملة الثانية لفظَةَ( مطرقين) إلى لفظة (انحناء)، و هما متقاربتان قليلاً في الدّلالة على الانكسار، إلّا أنّ لفظة ( انحناء ) جاءتْ جريئةً أكثرَ و هذا ربّما يناسبُ السّياق، فعادةً يبدأ الإنسانُ الحديثَ بعمومٍ و تحفّظٍ ثمّ ينطلقُ متحرّراً شيئاً فشيئاً ليُفصحَ في مرحلةٍٍ ما عمّا يريدُ و إن كان قاسياً بحقّ الطّرف الآخر، و يرى الدكتور عمرُ محمّد الطّالب ( أنّ المتكلّم " أنا " يأبى إلا أنْ يلجأَ إلى النّداء بوصفِه وسيلةً تحقّقُ التواصلَ مع الآخرين الذين تربطُ المتكلِّمَ بهم علاقةُ الأخوّة إذ يكونُ الّنداءُ مُعتمداً على علاقةِ تشابهِ وضعيّةِ كلٍّ منهما ) ( 2 )، و هذا النّداءُ بلفظة ( إخوتي ) جاء في مكانين متباعدين، و كأنّ هذا التكرارَ أُريدَ به التذكيرُ بالوضعِ العامِّ للناسِ في فترة القيصر، ففي أوّل القصيدة كانوا مُطرقين، و في آخرها ظهرَ رضوخُهم فباتوا مُنحنين، و هكذا يبقون لزمنٍٍ طويلٍ يتوازى معَ المسافة المكانيّة التي فصلتْ بين التكرارين في النصّ.
و يكرّر أيضاً جملةَ ( العنكبوتُ فوقَ أعناقِ الرّجال ) و جملةَ ( فقبّلوا زوجاتِكم إنّي تركْتُ زوجتي بلا وداع ) و جملةَ ( و إنْ رأيْتُم طفليَ الذي تركْتُه على ذراعِها بلا ذراع ) و تكرارُها كلِّها يصبُّ في مصبِّ الألمِ و التحسُّرِ و السّخرية أحياناً.
خلاصةُ القول : إنّ الشاعرَ وظّفَ التكرارَ ليؤدِّيَ غايةً دلاليةً انطوَتْ على الألم و المعاناة، فكلُّ المكرّرات – كلماتٍ و جملاً – جاءت دالّةً على حالة انكسارٍ و ألمٍ في واقعٍ يرضخُ للمستبدّين.
6- الضّمير بين الحضور و الغياب :
لعبتِ الضّمائرُ في النّصّ دوراً بارزاً في توجيه الدّلالة، و لعلّها خصيصةٌ أسلوبيةٌ واضحةٌ لقارئ النصّ، فمن اللافت للنظر دخولُ الضّمير إلى كلِّ كلمةٍ تقريباً في النّص، و لعلّ هذا محاولةٌ لاواعية لحشد المقهورين ليشكّلوا قوّةً تستطيعُ هزَّ عروشِ الظّلم، و هذا هو مقولةُ النّصِّ بشكلٍ عام.
إنّ تأرجحَ الضمير بين الغياب عن الفاعلية في الحدث، و الحضور على مستوى النّص يشكّل توتّراً و تناقضاً فهو موجودٌ و غيرُ موجود؛ موجود لأنّه يعيش و لكنْ بانحناءٍ، و غيرُ موجود لأنّه لم يمتلكِ القدرةَ على الفعل، و على هذا طغتْ ضمائرُ المُخاطَب على ضمائرِ المتكلِّم و الغائب، فضمائرُ المُخاطَب التي يُطلقُها سبارتكوس هي الطّاغية لأنّ الخطابَ أساساً موجّهٌ إلى هؤلاء المقهورين، فكثُرَ استخدامُ ضميرِ المُخاطَبِ آخذاً دورَه في التنبيهِ و التوعية.
يقول مثلاً :
لا تخجلوا و لْترفعوا عيونَكمْ إليّ
لأنّكمْ معلّقونَ جانبي على مشانقِ القيصر
فلْترفعوا عيونَكم إليّ
لربّما إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عينيّ
يبتسمُ الفناءُ داخلي لأنّكمْ رفعْتُمْ رأسَكمْ مرّة ( 148 )
يُلاحظ المقابلةُ بين ضميرِ المخاطب ( أنتم ) و هو للجمع، و ضميرِ المتكلّم ( أنا ) و هو للمفرد، إذ يحاول هذا الأخيرُ أن يشكّلَ حالةَ توازنٍ بين انهزامِ المخاطَب ( أنتم ) و صمودِ المتكلّم ( أنا ) أمامَ المستبدّ.
و يتجلّى التوازنُ من ناحيةٍ أخرى في ضمير المتكلّم في أنّه جاء بعد المخاطب من حيث الاستعمالُ، فوجودُه بين طرفين :المخاطب من جهة و الغائب من جهة أخرى محاولةٌ للتوازن بين الانحناء و اللاوجود.
و يتّضحُ ذلك في مطلع المزج الثاني إذ يقول :
معلّقٌ أنا على مشانقِ الصّباحْ
و جبهتي بالموتِ محنيّةْ
لأنّني لمْ أحنِها حيّةْ ( 147 )
فقد تكرّر ضميرُ المتكلّم ( أنا ) في ثلاثة أسطرٍ تأكيداً على الوجود و الفاعلية و إنْ كانت جبهتُه بالموت محنيّةً، و هو يمتلكُ القدرةَ على القيام بفعلٍ على الأقلّ و هو عدمُ الانحناء.
7- رمزيّةُ الألوان و قيمتُها الجمالية :
لم تكنِ الألوانُ في النصّ مذكورةً بشكلٍ صريح، و إنّما تجلّتْ في الموصوفات التي يُعرَفُ لونُها عند ذكرِها مباشرةً، فعندما نسمعُ الصّحراء لا بدّ أنْ نتصوّرَ مباشرةً أرضاً جرداءَ مقرونةً باللونِ الأصفر، فهناك موصوفاتٌ ثابتةُ الألوان.
و هذا ما لمسْناه في النصّ، إذ جاءتْ هذه الألوانُ متمّمةً فكرةَ الصّراع التي يتمحور حولَها النصّ، الصّراعُ بين الخير و الشّرّ في النتيجةِ الأخيرة ،و يمكنُنا استخراجُ الآتي ( الصّباح، المساء، الصّحراء، دمي، الشّجر، الرّبيع، البيضاء، الشّمس، الدّجى، الرمال، النار ).
و يمكننا تقسيمُ هذه الموصوفاتِ ذاتِ الألوان الواضحة على مجموعتين متقابلتين وفقَ ما يأتي:
أب
الصّباح المساء
الرّبيع الصّحراء- الرّمال
الشّمس – البيضاء الدّجى
البحر النّار
إنّ الصّباحَ يقابل المساء فهما ضدّان في وجهٍ من الوجوه، و يمكن عدُّهما ضدّين من حيث لونُ كلِّ واحدٍ، فالصّباحُ يرمزُ للبياض و الإشراق، بينما يرمزُ المساءُ إلى الزوال و بداية الظلمة، و هذه الثنائيةُ تساهمُ في إكمال مقولة النّصّ، و تفتح أفقاً أوسعَ لتصوّرِ صراع لونين هما الأبيضُ و الأسود،فهما يختصران الصّراعَ بين الخير و الشّرّ و يرمزان إليه.
و الرّبيعُ ممتلئٌ بالألوان و الأبرزُ فيه اللونُ الأخضر، و رمزيّتُه تميلُ إلى الخصب و النّماء، و يقابله الصّحراءُ و الرّمالُ ذاتُ اللونِ الأصفر و هي رمزٌ للقفر و العدم.
و الشّمسُ مصدرُ الإشراق تقابلُ الدّجى و هو اللونُ الأسود رمزُ الاستبداد، و تأتي المقابلةُ الأخيرةُ بين البحر والنار من حيث أنّ الماءَ ضدّ النّار، لأنّ النارَ حسبَ ما وردت في سياق النصّ انحازت إلى الفئة ب ، إذ اقترنَ استخدامُها بإزالة قرطاجة رمزِ الخير، يقول:
و في المدى " قرطاجةٌ " بالنّارِ تحترقْ
لذلك اتخذت لفظةُ النار مكانَها في الطّرف السّلبيّ، إذ تغدو مقابلاً للبحر الذي يطفئُ النارَ و يصارعُها حتى يقضيَ عليها.
إذاً لعبتِ الألوانُ دورَها المهمَّ في إتمام مقولةِ النصّ كما ذكرْنا، فالمقابلاتُ الحاصلةُ بين الألوانِ و الرّموز هي صورةٌ أخرى للصّراع النّاشب بين المستضعف و المتجبّر.
- خاتمة :
و بعد، فإنّ الأسلوبية استطاعتْ أن تلجَ إلى مكوّناتِ النّص الأدبيّ و تستظهرَ ما فيه من خصائصَ أسلوبيّةٍ تساهمُ في بناء مجالٍ دلاليّ تحرصُ الأسلوبيةُ على وضعه ضمنَ اهتماماتِها.
و قد خلصْنا في بحثنا هذا إلى أنّ لكلّ نصٍّ خصائصَه الأسلوبيةَ المستقلّة، فما يكون في هذا النّص قد لا يكون في نصٍّ آخر، و عليه فإنّ اختلافَ الخصائصِ الأسلوبية و توظيفَها يؤدّي دلالةً معيّنةً تكشفُ الأسلوبيةُ عنها ليجدَ القارئُ فيها معانيَ أخرى لم يكنْ يتصوّرُها لولا التعاملُ مع النّصِّ أسلوبياً ،و لعلَّ الشيءَ الأهمّ الذي وصلْنا إليه في دراستنا المتواضعةِ هذه هو أنّ الخصائصَ الأسلوبيةَ جميعاً جاءتْ مرتبطةً بالنسيج العامّ للنّصّ، و ما توظيفُها فيه و الإتيانُ بها إلا للإحاطة بالموضوع و الأفكارِ المرادِ التعبيرُ عنها، و تقديمِها بشكلِها الأقرب لما يجول في خاطر الشّاعر، و قد عُهِدَ عن أمل دنقل براعتُه في استخدام اللغة و التعاملِ معها بتقنيةٍ خاصّةٍ و بذلك يكون المنهجُ الأسلوبيُّ قادراً أكثرَ من غيره على التعامل مع نصوصٍ كهذه إذ يكشفُ عن مكنوناتٍ و خفايا قد لا تُبلَغُ إلا بوساطة الأسلوبية.
ثبت المصادر والمراجع :
الأسلوب ، أحمد الشايب ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ط 6، 1966
الأسلوبية والأسلوب ، د. عبد السلام المسدّي ، دار سعاد الصباح ، الكويت ط4 ، 1993 ( نسخة مصوّرة )
الأسلوبية والنص الأدبي ، حسين بوحسون ، مجلة الموقف الأدبي العدد 378 تشرين أ ،2002
الأعمال الشعرية الكاملة ، أمل دنقل ، مكتبة مدبولي ، القاهرة د ت
الانزياح في التراث النقدي والبلاغي ، د . أحمد محمد ويس ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2002
الانزياح واللغة الشعرية : عبد الرحيم أبطي مجلة علامات ، مج / 14 ، ج 54 ديسمبر 2004
البلاغة والأسلوبية ، د. محمد عبد المطلب ، مكتبة لبنان ناشرون ، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان – القاهرة ط1 ، 1994
بنية القصيدة العربية المعاصرة ، د. خليل الموسى، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2003
تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ) د . محمد مفتاح ، دار التنوير بيروت ط1، 1985
الجملة في الشعر العربي ، د. محمد حماسة عبد اللطيف، مكتبة الخانجي القاهرة ط1 ،1990 ( نسخة مصوّرة )
الخصائص ابن جني ، تحقيق: محمد علي النجار ، دار الهدى بيروت د ت
دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق :محمد رشيد رضا ، دار المعرفة بيروت 1978
دليل الدراسات الأسلوبية ، د. ميشال جوزيف شريم ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ط1 ، 1984.
زمن الشعر ، أدونيس، دار العودة بيروت 1978 .
ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث ، علاء الدين رمضان السيد منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1996.
عزف على وتر النص الشعري ، د . عمر محمد الطالب ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2000
علم الدلالة ( أصوله ومباحثه في التراث العربي) ، د . منقور عبد الجليل ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001
مع البلاغة العربية في تاريخها ، د . محمد علي سلطاني ، دار المأمون للتراث ، دمشق ط1 ،1978 ( نسخة مصوّرة )
مفاهيم الشعرية ، حسن ناظم ، المركز الثقافي العربي، بيروت 1994 ( نسخة مصوّرة )
مقالات في الأسلوبية ، د. منذر عياشي ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1991
نحو نظرية أسلوبية لسانية ، فيلي ساند يرس ، تر : د . خالد محمود جمعة دار الفكر، دمشق 2003.
مقدّمة:
كوّنتِ اللسانياتُ الحديثةُ مادّةً خاماً تشكّلتْ منها و تطوّرت عنها مناهجُ جديدةٌ نظر كلٌّ منها إلى النّصّ الأدبيّ من جهة، إلاّ أنّها جميعاً تعتمدُ اللغةَ أساساً لها في قراءتها النصَّ الأدبيّ، فمن البنيوية بفروعها إلى التفكيكية و من الأسلوبيّة و التداوليّة إلى الشّعرية إلى السّيميائية.
و هذا التعدّدُ في المدارس اللسانية ما كان إلا إغناءً لتعدّدِ قراءاتِ النصّ الأدبيّ، إذ يمكنُ أن نتناولَ النصَّ من عدّة مناحٍ تبعاً للمنهج المُختار للقراءة، فبات النصُّ نصوصاً أخرى لم نكنْ لنراها إلا بعدسة تلك المدارسِ المتنوّعة.
و قد وقع اختيارُنا على الأسلوبيّة لما لها من رؤيةٍ عميقةٍ للنّصّ الأدبيّ إذ تتناولُه بلاغيّاً و جماليّاً و دلاليّاً، و بذلك تغدو مكوّناتُ الجملة تحملُ معانيَ مسطَّحةً، و أخرى عميقةً تصل إليها الدّراسةُ الجادّة.
فعمدْنا في بحثنا إلى قسمين، الأوّل نظريّ قُسّم أيضاً على قسمين: الأوّل تناولْنا فيه الأسلوبيةَ في نشأتها و مفهومها و كيفيّة تعاملها مع النّصّ الأدبيّ و كلّ ذلك حاولْنا فيه الاختصارَ لتكونَ المعلوماتُ مُوجزةً مفيدةً تحاولُ قدْرَ الإمكان تقديمَ مفهوم الأسلوبيّة بشكلٍ قريب. و القسمُ الثّاني تكلَّمْنا فيه على آلياتِ التحليل الأسلوبيّ، و أوضحْنا مصطلحاتِ ( الاختيار، التركيب، الانزياح ) حادينا فيه الإيجازُ و الدّخولُ إلى الفكرة مباشرةً و عدمُ الدّوران حولَها.
أمّا القسمُ الثاني من البحث فهو القسمُ الإجرائيّ، و قد طبَّقْنا فيه بعضَ آلياتِ التحليل الأسلوبيّ على نصٍّ للشّاعر المصري أمل دنقل، و قد وقعَ اختيارُنا على هذا النّصّ و هذا الشّاعر تحديداً لما عُرِفَ عنه من شُغْلٍ على اللغة، فتتداخلُ في نصّه العلاقاتُ بين الجمل و التراكيب لتشكِّلَ بنىً عميقةً تخدمُ المعنى العامَّ للنّصّ، و قد وقفْنا على بعض الخصائصِ الأسلوبيّة في النصّ مُحاولين دراسةَ الدّلالة المترتّبة على استخدامِها من مثل ( التقديم و التأخير، و استخدام الأفعال بأنواعها، و الضّمائر، و الألوان ... إلخ ).
و ختمْنا بحثَنا بخاتمةٍ حملتِ النتائجَ التي توصّلْنا إليها، ثمّ ثبتاً بالمصادرِ و المراجع التي أفدْنا منها في البحث.
و قد واجهْنا بعضَ العقبات في بحثنا، و لعلّ أهمَّها عدمُ الحصول على تطبيقاتٍ أسلوبيّة على نصوص أدبيّة، فكلُّ ما استطعْنا الاطّلاعَ عليه إنّما كان تنظيراتٍ أسلوبيّة. لذلك جهدْنا في فهم تلك التنظيرات و الخروج منها بفهمٍ متواضعٍ طبّقناه على نصّ الشّاعر أمل دنقل.
و بعد، فإنّ المرءَ ليكتبُ عملَه و يتعبُ عليه، و ما إن يمرّ عليه أيامٌ قلائلُ حتى تهاجمه جنودُ الرّغبة في تطوير عمله و الإضافة عليه و حذف شيءٍ منه، و هذا شأوُ الإنسان السّاعي أبداً – دونَ وعي – إلى الكمال الذي لا يُبلَغ.
و إنّا إذْ نستمتعُ بعناء البحث نتوجّهُ بالشّكر الجزيل إلى أستاذِنا الدكتور محمّد بصل الذي قدّم لنا كلَّ المساعدة الممكنة و التسهيلات في الحصول على الكتب، فجزاه اللهُ عنّا أحسنَ الجزاء.
و اللهُ من وراء القصد
زاهر جميل قط
اللاذقية 17 تموز 2005
أولاً : القسم النظري :
1- الأسلوبية بوصفها منهجاً :
إذا كان لكلّ إنسان بصمةٌ يختلف بها عن الآخر ( و إن تقاربت ملامحُ بعضها ) فإنّ الأسلوبَ بصمةٌ لصاحبه نستطيع أن نعرفَه من خلاله.
فالأديب و الكاتبُ عموماً يتخذ لنفسه طريقةً في الكتابة هي حصيلةُ ثقافته و فكره و معتقداته و ذائقته الجمالية، تأخذ شكلَها تباعاً بين أوراقه، فالأسلوب ( طريقةُ الكتابة أو الإنشاء أو طريقةُ اختيار الألفاظ و تأليفها للتعبير بها عن المعاني قصْدَ الإيضاح و التأثير ). (1)
من هنا اهتمّتِ اللسانياتُ الحديثة بدراسة هذا الأمر، فنشأ ما سُمِّيَ علمَ الأسلوب أو الأسلوبية، و عُدّتِ الأسلوبيةُ ابناً شرعياً للبلاغة ( 2 )، إلا أنّ البلاغة علمٌ معياريٌ يرسل الأحكام التقييمية و يرمي إلى تعليم مادته، بينما تنفي الأسلوبيةُ عن نفسها كلَّ معيارية و تعزف عن إرسال الأحكام التقييمية ( 3 )، كما يمكننا أن نلحظَ أنّ البلاغة تحددّ كيف يكونُ الكلامُ جميلاً ذا أثرٍ فنيٍّ فهي تعليمية، على حين أنّ الأسلوبية تتجه إلى النص بعد إنجازه لدراسة ميّزاته الأسلوبية فهي تنحو نحوَ التوصيف و تبتعد عن التقييم كشأن المناهج اللسانية الأخرى. و إذا كانت البلاغةُ ( علماً فيما نتلقّاه بالإحاطة و التعلّم و الإتقان من بحوثها و أبوابها و فروع ذلك – و هي فنٌّ في حسن استعمال هذه الوجوه لرفع قدرة الأداء على الإشراف و العمق و الإغناء و التأثير ) ( 4 ) فإنّ الأسلوبيةَ بوصفها منهجاً له ضوابطُه و آلياتُه كما يقول رومان جاكبسون ( بحثٌ عمّا يتميّز به الكلامُ الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، و عن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً ) ( 5 ) فهي تُعْنى بطريقة القول، و ما يعتريها من مجازٍ و تقديمٍ و تأخيرٍ و انزياح ... إلخ
إذاً نميّز هنا بين الأسلوب بوصفه طريقةً في التعبير، و الأسلوبية بوصفها منهجاً في قراءة النّصوص.
إنّ مقولةَ الأديب الفرنسي بيفون ( 1 ) : ( الرّجل هو الأسلوب ) تدلّ على أنّ اللغة في صياغتها و نظام الأفكار التي تحملها إنما تكشفُ عن شخصية صاحبها ( 2 ).
فالأسلوبُ هو ربطُ الألفاظ إلى بعضها لتشكّل نسيجاً يتسم بمميّزاتٍ تميّزه عن أسلوبٍ آخر، فهو حدَثٌ يمكن ملاحظتُه، ( إنّه لسانيٌّ لأنّ اللغةَ أداةُ بيانه، و هو نفسيٌّ لأنّ الأثرَ غايةُ حدوثه، و هو اجتماعيٌّ لأنّ الآخرَ ضرورةُ وجوده ) ( 3 ).
و قد تناول اللسانيون الأسلوبَ و الأسلوبية تحليلاً و تعريفاً، ولعلّ معظمَها يتفق على أنّ الأسلوبَ طريقةٌ في التعبير و استخدام اللغة، و الأسلوبية منهجٌ وصفيّ للنصوص يتكِئ على البلاغة و لا يقف عند حدودها بل يتخطّاها ليتخذ طابعاً علمياً له أسسه و قوانينه. و قد تأسست قواعدُ الأسلوبية على يد أحد تلاميذ دي سوسير هو ( شارل بالي ) ( 4 ) الذي يرى أنّ اللغة ( تتكون من نظامٍ لأدوات التعبير التي تتكفّل بإبراز الجانب الفكري من الإنسان، و ليست مهمة اللغة مقصورةً على الناحية الفكرية وحدها، بل إنّها تعمل أيضاً على نقل الإحساس و العاطفة ) ( 5 ). فدورُ الأسلوب يكون في إيصال أمرين اثنين: الفكرة و الإحساس، و غاية الأسلوبية هنا الكشف عن الخصائص الفنية المميّزة للنّص، و ربط هذه الخصائص و المميّزات بالدلالات المترتّبة عليها.
إنّ التعامل مع اللغة بتقنية معيّنة تقوم على إخراج المفردة عن معناها المعجمي إلى معنى جديدٍ ذي دلالة يشكّل جزءاً من الأسلوب الذي يتّسم به كاتبٌ ما، ( فالذي يقرأ الأدبَ و منه الشعرُ يدرك بسهولة أنه لعبٌ لغويٌ سواءٌ أكان لعباً ضرورياً تحتّمه إمكاناتُ اللغة المحدودةُ أم كان لعباً اختيارياً ) ( 6 ).
و هذا يعني أنّ المجاز يساعد على إيضاح القصد و التأثير، لذلك يلجأ الكاتب إمّا مضطرّاً إلى هذا لأنّ اللغة العادية لا تكفي لإيضاح ما يجول في نفسه، أو يتخذ هذا المجاز شكلَ التزيين الموظّف و هو ما أطلق عليه الدكتور محمد مفتاح ( لعباً اختيارياً ).
إنّ طريقة استخدام اللغة التي تقف الأسلوبيةُ على خصائصها تعطيها نفسَاً شعرياً، فالكاتب عندما يلجأ إلى أسلوب ٍما قاصداً منه التوضيحَ والتأثير إنّما يستعملُ الانزياحاتِ والاستعاراتِ وأشكالاً أسلوبيةً أخرى كالتكرار والتقديم والتأخير والرمز وغيرها، وهذا ما يجعل اللغةَ تنحو نحوَ الشعرية، يقول أدونيس: ( إنَّ الفرقَ بين لغة الشعر والنثر ليس في الوزن بل في طريقةِ استخدام اللغة، النثرُ يستخدم النظامَ العاديَّ للغة أي يستخدم الكلمةَ لما وُضعت له أصلاً، أمّا الشعرُ فيغتصب أو يفجّر هذا النظام، أي يحيد بالكلمات عما وُضعت له أصلاً )( 1 ). واضحٌ أنَّ أدونيس لا يقصد كلَّ النثر هنا، لأنَّ هناك نثراً يقومُ على اللغة الشعرية، وإنّما المقصودُ بالنثر هنا الذي يستخدم اللغةَ دون انزياح أو استعمال لأساليب البلاغة لأنّه لا يرمي إلى التأثير بل إلى الإيضاح وتبيان المقصود فقط. ومن جانب آخر نجد أنَّ هناك علاقةً قائمةً بين الأسلوبية والشعرية، فشعريةُ جاكبسون مثلاً تدرس ضمنَ نطاقٍ منحى أسلوبيّاً معيّناً يتمثّل هذا المنحى بالأسلوبية التي تقرّر أنّ ماهيّة الأسلوب تتحدّد بنسيجِ الرّوابط بين الطّائفتين التعبيريّتين في الخطاب الأدبي: طاقة الأخبار * وطاقة التضمين ( 2 ).
فالأسلوب الذي هو النسيج الجامع للمفردات يخبر ويضمِّن مقصدَه في إطارٍ من التأثير الذي يساهم في الارتقاء بعملية التفاعل بين المرسل والمتلقي.
2- آليات التحليل الأسلوبي :
إذا كان علمُ اللغة يدرس ما يقال فإنّ الأسلوبية تدرس كيفيةَ ما يقال مستخدمةً الوصفَ و التحليل ( 1 )، و على هذا الأساس يكون توجّهُ الأسلوبية نحو تحليل النص لاستكشاف العنصر التأثيري للأدوات البلاغية التي يوظّفها الكاتبُ في نصّه.
و المهمُّ الإشارةُ إلى أنّ التناول الأسلوبيّ إنّما ينصبّ على اللغة الأدبية لأنها تمثّلُ التنوّعَ الفرديّ المتميّزَ في الأداء بما فيه من وعيٍٍٍ و اختيارٍ، و بما فيه من انحرافٍٍٍ عن المستوى العاديّ المألوف بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية و التي يتبادلها الأفراد بشكل دائم و غير متميّز ( 2 ) .
تستند الأسلوبية إلى ازدواجية الخطاب حيث نجد مجموعةً من الألفاظ يمكن للمتكلّم أن يأتيَ بواحدٍ منها في كلّ جملة من جمل الكلام ( 3 )، و يمكن أن تقومَ واحدةٌ مكان الأخرى ،فاختيارُ المتكلّم و الكاتب ( المرسل ) هذه المفردةَ دون الأخرى يخضع لخصوصية أسلوبه، فتدرس الأسلوبية هذا الاختيارَ و تبيّن دلالتَه و أثرَه الفنيَّ في المرسَل إليه، فمجالُ الأسلوبية يكون مقتصراً على مكوِّنات النص الداخلية فلا يتعدّاها إلى ما هو خارجيّ من العوامل المؤثرة.
و ينطلق البحثُ الأسلوبيّ في مقاربته النصَّ الأدبيّ من المقولات الآتية:
الاختيار - التركيب - الانزياح
ً1- الاختيار :
يقصد به انتقاءُ المنشئ لسماتٍ لغويةٍ معيّنة بغرض التعبير عن موقفٍ معيّن ( 4 )، و هذا الانتقاء يجعل من الأسلوب عملاً واعياً لأنّ اختيارَ المبدع هذا اللفظَ أو التركيب دون غيره إنّما لأنّه أقدرُ على حمل مراده إلى حيّز الورق حسبَ تقدير هذا المبدع.
و للاختيار صورٌ متعدِّدةٌ ،فمنها ما يُختار على مستوى اللفظ أو المعجم و منها على مستوى التركيب ( النحو ) فيغدو الأسلوبُ بذلك استثماراً و توظيفاً للطاقات الكامنة في اللغة ( 5 ) .
و من صور الاختيار ما ينشأ من التعبيرات المجازية و هذا يتجاوز المفردة لينظر إلى التركيب مجملاً، فمن أمثلته قول بشارة الخوري:
انشروا الهولَ و صبُّوا نارَكمْكيفما شئْتُمْ فلن تلقَوْا جبَانا
يمكن أن نجدَ على محور الاختيار فيما يتعلّق بالتركيب ( صبّوا نارَكم ) بدائلَ كثيرةً مثل: أطلقوا، ارموا، اقذفوا، صبّوا ... إلخ، لكنّ الشاعرَ آثر( صبّوا) ظنّاً منه أنّ الفعلَ (صبّ) الذي يوحي بالغزارة يمكن أن يؤدّيَ المرادَ أكثرَ ممّا تؤدّيه بقيةُ الأفعال المنتظرة على جدول الاختيار.
2ً- التركيب :
يقوم التركيب بنظم الكلمات المختارة في الخطاب الأدبي متوسّلاً في ذلك بعمليتي الحضور و الغياب، الحضور للكلمات المختارة و الغياب للكلمات الأخرى المصفوفة في جدول الاختيار، و الدخول في علاقة جدلية أو استبدالية، فالكلمات الأخرى تتوّزع غيابياً في شكل تداعيات للكلمات المنتمية لنفس الجدول الدلالي ( 1 ).
( إنّ صورة الغياب هذه تعطي للأفعال معانٍ* إضافيةً لأنها بالنصّ دائماً حافّةٌ، كما تعطيها أيضاً قيمةَ الشهادة على أسلوبية الجملة ) ( 2 ).
فالتحليل هو دراسة الانسجام الحاصل بين المفردات و الأثر الجمالي و الفني الذي يتركه في ذهن المتلقّي، و على هذا يكون الأسلوبُ عند ( جاكبسون ) تطابقاً لجدول الاختيار على جدول التأليف أو التركيب ( 3 ).
إنّ الدّرسَ الأسلوبيّ لا يقف عند توصيف بنية التركيب في الخطاب الأدبي بل يستقصي من خلال ما يتفرّع عنها من أشكالٍ تعبيرية كالتقديم و التأخير و الحذف و الذكر و التعريف و التنكير ... إلخ فكلّ شكلٍٍ من هذه الأشكال هو خاصيةٌ أسلوبية ذاتُ دلالة خاصّة بتركيبها ضمن النّسق اللغوي.
3ً- الانزياح :
ورد مصطلحُ الانزياح كثيراً في الدراسات القديمة و الحديثة و اتخذ أكثر من تسمية منها الانحراف و العدول و الإبداع و التغيير و الخروج ... إلخ ( 1 ). و هو يُعدُّ مؤشّراً على أدبيّة النصّ و شهرته لأنّ الخروج عن النسيج اللغوي العادي في أيّ مستوى من مستوياته ( الصّوتي، التركيبي، الأسلوبي، البلاغي ) يمثّل بحدّ ذاته حدثاً أسلوبياً ( 2 ).
و الانزياحُ هو الرّكن الذي بني عليه جان كوهن كتابَه ( بنية اللغة الشعرية ) إذ عدّ الانزياح مبدأ الشعرية، و الانزياحُ لا يكون شعريّاً إلا إذا كان محكوماً بقانون يجعله مختلفاً عن غير المعقول ( 3 )، و هذا ما يتجلّى في علاقةٍ مفردةٍ ما مع المفردات الأخرى ضمن السّياق، فكلمة ( السّماء ) لا تشكّل انزياحاً إلا إذا أُسند إليها فعلٌ لم يعتدْ أن يُسندَ إليها مثل ( بكت ) ليتشكّل انزياحٌ يُسمّى في البلاغة استعارةً ،فعلاقة( السّماء) مع (بكت) يمكن دراستُها ضمن مجال الدّرس الأسلوبي، فوظيفتُه أي ( علم الأسلوب ) تبيانُ الوظيفة التأثيرية و الجمالية و الدّلالية لهذا الانزياح.
ثانياً: القسم الإجرائي :
نتناول في هذا القسم نصّ ( كلمات سبارتكوس الأخيرة ) لأمل دنقل، و سنحاول الوقوف على أبرز الخصائص الأسلوبية لتحليلها و دراستها، و سنعمد في دراستنا هذه إلى الوصف اللغوي المجرّد للمثيرات اللغوية ذات القيمة الأسلوبية، ثمّ وصف التأثيرات الفنية و الجمالية و الدلالية لتلك المثيرات، فالوصف الموضوعي ( يحددّ السمات المميزة للتراكيب النحوية عند كاتبٍ ما، ثمّ يعمل على اكتشاف ما إذا كانت هذه المميزات التركيبية النحوية – أو بعضها – ترتبط بالتنظيم الدّلالي للنتاج الأدبيّ ) ( 1 )، و استعنّا بالإحصاء الذي يقوم به الباحثُ الأسلوبيّ لرصد عدد المثيرات الأسلوبية و دلالتِها المترتّبة على ذلك التكرار.
1- الفعل و قيمته الدلالية * :
تنوّع استخدامُ الشاعر للجملة الفعلية، فقد جاء النصّ متحرّكاً بين الفعل الماضي و الأمر و المضارع.
لقد تكرّر استخدامُ الفعل الماضي سبعاً و ثلاثين مرّةً، على حين وردَ المضارعُ اثنتين و أربعين مرّةً، و جاء فعل الأمر ( بما فيه المضارع المسبوق بطلب ) اثنتين و عشرين مرّة. إنّ الإكثار من استخدام الفعل الماضي عموماً فيه دلالةٌ على الحاضر المَعيش، فالذي نراه متذمّراً من واقعه يلجأ إلى الماضي و مطيّتُه الفعلُ الماضي الذي يحمله إلى ذلك الزمن الجميل بالنسبة له. و تأتي صيغ الأمر بعددها المحصى – و هي الأقل – لأنّ القائل – و هو سبارتكوس – ليس واثقاً بالناس الذي رضُوا بحياة الاستعباد، و هو شبهُ يائسٍ لأنّ الفعل المضارع الذي تكرّر اثنتين و أربعين مرّةً يمكن تقسيمُه على فترتين، فترة الحاضر و حصّتُها خمسٌ و ثلاثون مرّة، و فترة المستقبل و حصّتها سبعُ مرّات، إنّ الفعلَ الحاضر يدلّ على الحركة ( يبتسم، يحملها، ينسج، يرثون ... ) و لعلّ المقام يحتاج إلى هذه الحركة وسطَ سكون الخائفين من القيصر، أمّا المستقبل فأفعاله الدّالة عليه قليلةٌ لأنّ وجودَه مهدّدٌ بالزّوال حسبَ رؤية سبارتكوس، لأنّ الاستبداد لن يشنقَ سبارتكوس وحدَه، و إنّما سيشنق كلَّ الثائرين، و بذلك يغدو المستقبلُ للموت و ليس للحياة، و لعلّ هذا يفسّر لنا كثرةَ استخدام الماضي و إلى جانبه المضارع الحاضر.
و يلفت نظرَنا هنا التوالي الكيفي للأفعال و ليس التوالي الكمّي، فالحركة الناتجة عن الأفعال و حدوثها تطبع مشاهد النص بالطابع الدرامي، فلا تعبّر الأفعال عن مقامها منفصلةً، و إنّما يشكّل كلُّ فعلٍ إلى جانب الأفعال الأخرى دراميةً عاليةَ الأداء في النصّ :
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ، إنّي أعترفْ
دعْني على مشنقتي ألثمْ يدَكْ
ها أنذا أقبّلُ الحبلَ الذي في عنقي يلتفّ ( ص 150 )
فالأفعال الواردة سابقاً فيها حركةٌ و صراع ،فمن الخطأ إلى الاعتراف إلى لثم اليد و التقبيل و التفاف الحبل ... إلخ. كما يمكن أن نجدَ المقابلةَ بين الماضي و المضارع ظاهرةً في أكثرَ من مكانٍ في النصّ :
قد أخطأتُ إنّي أعترف
إذا التقتْ عيونُكم ...يبتسمُ الفناء ..
سيزيفُ لم تعدْ على أكتافه الصّخرةْ
يحملُها الذين يُولدون في مخادعِ الرّقيقْ ( ص 148 )
و لعلّ هذه المقابلةَ مقارنةٌ يائسةٌ بين ماضٍ مطلوب و حاضرٍ ميئوسٍ منه، و العلائقُُ بين الأفعال هنا منطقيّةٌ، فالخطأُ في الماضي يقتضي الاعترافَ في الحاضر، و الالتقاءُ ( بما فيه من دلالاتٍ تحيل إلى الفرح غالباً ) قد يؤدّي إلى الابتسام.
و يبرز دورُ الفعل في استخدامِه على المستوى المجازي في تصوير المجرّدِ وتبيان هيئتِه ، كما في قوله (يبتسم الفناء- ينسج الرّدى) إذ يصبحُ الشّيءُ قابلاً للإبصار ، ومن اللافت للنظر هنا التخصيص في دلالة بعض الأفعال كما في قوله:
و جبهتي بالموتِ محنيّةْ
لأنّني لم أحنِها حيّه ْ ( ص 147 )
فالفعل (يحني) يُستخدم عادةً مع القامة، و الجبهةُ جزءٌ من القامة، فالتخصيص هنا حصر الانحناء لهذا الجزء المقدس في الإنسان. و قد اختار الشّاعرُ من محور الاختيار هذه المفردةَ لما للجبهة من شرفٍ و سموٍّ بالنسبة لجسم الإنسان، كما نجد بعضَ الأفعال عند أمل دنقل في هذا النصّ ممنوعةً من التعدّي إلى مفعولها مباشرةً، إذ يأتي بحرف جرّ لغايةٍ بلاغية:
( يعبرون في الميدانِ مُطرقين )
فاللغةُ تسمح له أن يقول ( يعبرون الميدانَ ) دون الحاجة إلى حرف الجرّ، و لكنّ ( في ) هذه و هي للاحتواء الظّرفي المكانيّ جعلتِ العبورَ صعباً لم ينتهِ، فلو قال ( عبَرَ الميدان ) عنى تحقُّقَ العبور، و لكنّ العبورَ مستمرٌ و غيرُ مُنتهٍ و هو عبورٌ يائسٌ لأولئك المسحوقين بين قطبيْ رحى القيصر.
نجدُ الاتساعَ أيضاً في استخدام الفعل ( ترفعون ) في قوله ( و لترفعوا عيونَكم إليّ ) فالأصلُ ( لترفعوا رؤوسَكم ) و العين جزءٌ من الرّأس، و رفعُها يقتضي رفعَ الرأس، و هو موقفٌ يبحثُ عنه سبارتكوس للوقوف ضدّ استعباد القيصر للنّاس.
كما نجدُ حضوراً لأفعال الحواسّ كما في :
فلنْ تشمَّ في الفروعِ نكهةَ الثّمرْ
فتقطعُ الصّحراءَ باحثاً عنِ الظّلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ و الرّمالْ
فمشاركةُ أكثرَ من حاسّةٍ يساهمُ في الإحاطة بالموضوع، فلدينا ( تشمّ، ترى ،الهجير الذي يحرّك حاسّة اللمس )، و الحواسّ – كما نعلم – وسائلُ العقل لإدراك العالم الخارجيّ، و استحضارُ هذه الحواسّ الثلاث يساعدُ في بناء موقفٍ أوعى، لمنع القيصر من قطعِ الشّجر و نصبِها مشانقَ.
وإنا لنمضى العمر سعيا لنشتري........ بأعمارنا عطرا يظل ..ونذهب
رد مع اقتباس رد مع اقتباس
#
20/08/2006 02:46 PM #2
زاهر جميل قط
* الملف الشخصي
* مشاهدة المشاركات
* رسالة خاصة
* مشاهدة مقالات المدونة
* زيارة الصفحة الرئيسية
* مشاهدة المقالات
زاهر جميل قط غير متواجد حالياً
شاعر مربدي زاهر جميل قط is on a distinguished road
تاريخ التسجيل
Feb 2004
الدولة
سوريا
المشاركات
95
معدل تقييم المستوى
7
رد : قراءة أسلوبية في نص شعري
2- الصّفة وقيمتُها الأسلوبيّة :
تُفسِحُ الصّفةُ مجالاً لتسلّلِ الأنا وظهورها سواءٌ أكانت هذه الصّفةُ مجازاً أم حقيقةً، فعندما أسمعُ شخصاً يقول ( ليلٌ طويل ) أستطيع أن أزعُمَ أنّه حزينٌ متعبٌ يعاني من أمرٍ ما.
وقد برز دورُ الصّفة في النصّ على مستويين: مستوى الصّفة المفردة الدّالة، ومستوى الصّفة مع نقيضها أو ما يمكن تسميتُه ( ثنائية ضدّية ).
- وظلّ روحاً أبديّةَ الألمْ
نلاحظُ دورَ الصّفة واضحاً في هذا التركيب، فهي البوابةُ التي تمرّ عبرَها الرّوحُ إلى الألم، فقد استطاعتْ أن تضطلعَ بهذا الدّور وتشكّلَ دلالةً على خلود الألم في تلك الرّوحِ المتمرّدة .
ويمكن أن تقومَ الصّفةُ بإظهار السّخرية والاستهزاء، وهذا محكومٌ بوضعها ضمن سياقٍ معيّن، فعندما أخاطبُ شخصاً أحبّه بالعظيمِ يكونُ الكلامُ مدحاً وتعظيماً، أمّا عندما أخاطبُ به عدوّاً فلا شكّ أنّني أُلبسُه ثوباً فضفاضاً من السّخرية، وهذا ما نجدُه في توظيفِ الصّفة في قول الشاعر:
- يا قيصرُ العظيمُ قد أخطأتُ إنّي أعترفْ
فالعظيمُ – وهي صفةٌ لقيصر – تحمل معنى التهكّم والنيلِ من شخصية قيصر الظّالم – ويمكنُ أن تقومَ الصّفةُ بدورٍ فاعلٍ في تحديد وجهة الدّلالة، فهي توفّرُ ميزةَ الاختصارِ والإيجاز، فعندما يقول:
- فلترفعوا عيونَكمْ للثّائرِ المشنوقْ
نلمحُ الصّفةَ ( المشنوق ) كأنّها تريدُ إخبارَنا أنّ الشنقَ مصيرُ الثائر، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يمكن أن نرى في إفرادها إحالةً إلى ضرورة ثورةٍ جماعية تضمنُ الخلاصَ من ظلم القيصر، فكلُّ ثائرٍ مفردٍ مشنوق ٌ.
واستحضارُ البدائل الممكنةِ من جدول الاختيار يقوم بدورٍ دلاليّ قويّ ضمنَ علاقاتِ الحضور والغياب، فيمكنُ أن نرى أنّ جدولَ الاختيار لهذا التركيب يحتوي على ( البطل، الرّابح، الشّهيد، المُنتصر ...) ولكنّه اختارَ من جدول الاختيار هذا مفردةَ المشنوق، وجعلها ضمنَ جدول التركيب ليجعلَ من الشّنق مصيراً قابلاً للتغيير، وهذه القابليةُ تثيرُها البدائلُ الغائبةُ في جدولِ الاختيار.
ومن جانبٍ آخرَ نجدُ الصّفةَ تدخلُ في مزاوجةٍ ضدّية يعملُ الشّاعرُ على إثارتِها للتحريض والتأثير: - المجدُ للشّيطانِ معبودِ الرّياحْ
إنّ لفظةَ (معبود) تحرّضُ في الذّهن للوهلة الأولى غالباً ( الإله )، ولكنّه هنا نعَتَ بها الشّيطانَ في إشارةٍ إلى الصّراع القائم بين الخير والشّر، بين الشّيطان والله، ولكنّ الرّياحَ هي القائمةُ بهذه العبادة.
ـ فخلْفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ قيصرٌ جديدْ
تنهض المقابلةُ بين الصّفتين هنا ( يموت، جديد ) ٍعلى فكرة الاستمرار والاتّحاد بالزّمن للدّلالة على هيمنةِ النّظام الاستعبادي القائم على أساسِ رضوخِ الناس وسكوتِهم.
من الملاحظِ أنَّ الخطابَ عندما يكون موجّهاً إلى القيصر تكون الصّفاتُ منتميةً إلى حقلٍ دلاليّ واحد ( الإسكندر العظيم - قيصر العظيم – شرابك القوي – قيصر جديد – يا سيد الشواهد البيضاء ) إذ يمكن أن نلاحظ أنّ هذه الصفاتِ جميعَها جاءت في إطارٍ إيجابيّ تجاهَ القيصر، فكلُّ هذه الصّفاتِ صفاتٌ جيّدةٌ إيجابية، وبالمقابل نجدُ الموصوفاتِ - غيرَ القيصر - قد وُصفتْ بصفاتٍ قابلةٍ للضّعف والسّلبية ( الثائر المشنوق – دمي الشّهيد – الظمأ الناري – روما المجهدَة – الزينة المعربدة – قرطاجة العذراء تحترق ) فتكون الصّفةُ ضمن هذه المقابلة قد جسّدتِ الصّراعَ الحقيقيَّ القائمَ بين الحاكم المتسلّط و المحكوم الضّعيف.
ونشير أيضاً إلى أنّ النعتَ بالاسم الموصول وردَ تسعَ مرّات في النص، والاسم الموصول لا يأتي في الجملة وحيداً فلا بدّ له من جملة صلة تتمّم معناه:
( يا إخوتي الذين يعبرون – طفلي الذي تركته – الحبل الذي يلتفّ – مجدك الذي يُجبرنا – الكأس التي كانت عظامُها جمجمتَه ...) ففي المكان الذي يتسع للسّرد والتوضيح كان يستخدم الصّفةَ عن طريق الاسم الموصول مع صلته كما نلحظ أنّه كان يستعمل الاسمَ الموصول لموصوفات متقابلةٍ ضدّياً أيضاً، ويمكن أن نمثّلَ ذلك بالشّكل الآتي :
أ ب
- يا إخوتي الذين يعبرون - مجدُك الذي يُجبرنا أن نعبدَك
- طفلي الذي تركته - الحبل الذي في عنقي يلتفّ
- في اللحظة التي استرحْتَ - الكأس التي كانت عظامُها جمجمتَه
بعدها مني استرحْتُ منك
فالمقابلةُ تقوم بين المجموعة ( أ ) التي يجمعُ بينها الشّيءُ الذّاتيُّ القريبُ من المتكلّم، وبين المجموعة ( ب ) التي يجمع بينها خيطُ التسلّط المتمثّل بالآخر الظّاهر، وهذه المقابلاتُ شكّلت أفقاً مفتوحاً للقراءة.
3- النفي ودلالته :
أسلوبُ النفي : أسلوبٌ خبريٌ ينفي حكماً إيجابياً، والمقصودُ بالإيجابية هنا الحصولُ، فقولي ( لم أخسرْ ) لا يعني أنّ ( لم ) تنفي الحكمَ الإيجابيَّ ( تخسر ) من زاوية المعنى، فالدلالةُ للخسارة عموماً دلالةٌ سلبيةٌ، ولكنّ الإيجابيةَ المقصودةَ هي الحصول، ونفيُ الحكمِ الإيجابي أي عدمُ الحصول. وقد استعمل الشّاعرُ النفيَ ستَّ عشرةَ مرّةً، تنوّعَ بين نفي الفعل ونفيِ الاسم، ونحن في إحصائنا هذا لا نقدّم شيئاً ما لم نحلّلْ ونبيّنْ معنى هذا العدد فلم يعدِ الأسلوبُ مجرّدَ بحثٍ في جدولٍ إحصائيّ صامت، بل إنّه اتصل بالعملية الإبداعية من بدئها إلى نهايتها ( 1 ).
يمكن لنا أن نلاحظَ أنّ معظمَ أدواتِ النفي قد جاءت في صيغٍ دالّةٍ على الضّعف والخسارة ( لا يروي، لا يرتوي، بلا وداع، تركْتُ طفلي بلا ذراع، لم يغفرْ، ليس ثمّ من مفرّ، لن تشمّ في الفروع نكهةَ الثّمر، لا ترى سوى الهجير، لم يأتِ ... إلخ ) فكلّ المنفيّات الواردة إنّما هي من الأشياء التي يشتهيها الإنسانُ ويريدُها, فدورُ أداةِ النفي هنا الوقوفُ حائلاً مانعاً بين المرءِ ومرادِه، فهي تقوم بدورٍ دلاليّ مرتبطٍ مع أجزاء النّص الأخرى في دلالتها على الضّعف والانهزام أمام قوى القيصر الباغية.
4- التقديم والتأخير :
إنّ التقديمَ والتأخير ظاهرةٌ أسلوبية تتجلّى في الأعمال الأدبية ولاسيّما الشّعرية أكثرَ ممّا تظهر في الكلام العاديّ، فالشّاعرُ أو القاصّ أو الرّوائيّ يقدّم و يؤخّر بين مفردات النّسق الواحد وفقَ ما تسمح به اللغةُ والنحو.
فالتقديمُ والتأخيرُ يؤدي غرضاً بلاغياً، فهو يستمدّ أثرَه من السّياق الوارد فيه، ( فالسّياقُ اللغوي يشرف على تغيير دلالة الكلمة تبعاً لتغيير يمسّ التركيب اللغوي كالتقديم والتأخير في عناصر الجملة، فقولنا " زيدٌ أتمَّ قراءة الكتاب " تختلفُ دلالتُها اللغويّة عن جملة " قراءةُ الكتاب أتمّها زيدٌ ") ( 1 )، إذاً لا بدّ أن يكونَ هناك دلالةٌ تنطوي على استخدام هذه الخاصيّة الأسلوبية ( لأنّ وصفَ النظامِ التركيبي للشّعر، أو تحديد البناء النحوي للجمل فيه مع ضرورته، وشدّة الحاجة إليه لا يمكنُ أن يتمَّ دون أن يرتبطَ هذا بما تؤدّيه من دلالةٍ لأنّ عزْلَ النّظام النّحوي عن الشّعر لا معنى له ) ( 2 ).
وقد برزتْ هذه الخاصيّةُ في النّصّ ما يزيد عن ثماني مرّات، وقد عُهِد عن هذه السّمة أنّ التقديمَ يكونُ للعنصر الذي يريدُ الباثُّ لفتَ النّظرِ إليه، فالمقدَّمُ عادةً هو الأهمّ، ويمكننا أن نلحظَ في الاستعمالاتِ الستّة الآتية أمراً ذا علاقةٍ بالنسيج العامّ للنصّ: ( معلّقٌ أنا – وجبهتي بالموت محنيهْ – لم تعدْ على أكتافه الصّخرة – والعنكبوتُ فوق أعناق الرّجال ينسج الردى– أمنحك بعد ميتتي جمجمتي – تصوغ منها لك كأساً لشرابك ) نلاحظ أنّ المقدَّماتِ هي ( معلّق، بالموت، على أكتافه، فوق أعناق، بعد ميتتي ) وهي دوالّ على القهر والسّلطة الممارَسة على الإنسان، فالشاعرُ أراد تقديمَ حالةِ القهر التي تصيبُ الإنسانَ وذلك للتنبيه والتوعية. حتى إنّ حرفَ الجرّ ( على ) يفيدُ الاستعلاءَ، والظّرف ( فوق ) فيه معنى الاستعلاء وهما معنيان مساعدان في رسم أفق السّلطة وممارساتِها.
5- التكرار وقيمته الأسلوبية :
انتشرتْ ظاهرةُ التكرار في الشّعر الحديث كثيراً واتخذت دورَها في بناء النصّ. فالتكرار ليس ضرباً من الترف، بل له وظائفُه الفنيّةُ المساهمة في إبراز الجوانب المهمّة التي يريد الشاعرُ قولَها.
وأسلوبُ التكرار يحتوي على كلّ ما يتضمّنه أيُّ أسلوبٍ آخر من إمكاناتٍ تعبيريّة، ( والقاعدةُ الأوّليّة في التكرار أنّ اللفظَ المكرَّرَ ينبغي أن يكونَ وثيقَ الصّلة بالمعنى العامّ، و إلا كان لفظيّةً متكلّفةً لا سبيلَ إلى قبولها) ( 1 ).
والغالبُ أنّنا عندما نكرِّرُ أمراً نريدُ بهذا التكرار الإشارةَ إلى أهميّته والتنبيه إليه، أو تأكيد الكلام ...
نلاحظ أنّ التكرارَ في النصّ جاء على شكلين: تكرار كلمة وتكرار جملة.
وهذا التكرارُ للكلمة والجملة انقسم بدوره على تكرارٍ منفصلٍ وآخرَ متصلٍ على النحو الآتي:
- تكرار متصل كلمة
جملة
- تكرار منفصل كلمة
جملة
نبدأ بالتكرار المتصل للكلمة، في الوحدة الأولى يكرّر الشاعر( مَنْ ) ثلاثَ مرّات في ثلاثِ جمل، المرّتان الأولى والثانية جاءت كلمة ( مَنْ ) اسماً موصولاً، وفي الثالثة جاءت اسماً للشرط الجازم، و( مَنْ ) في الحالات الثلاث هي للعاقل، وهذا العاقلُ هو المعنيُّ بالخطاب ( مَنْ قال – مَنْ علّم ) موصول
( من قال لا فلم يمتْ ) شرط
إنّ التكرار لـ ( مَنْ ) الدّالة على العاقل في مطلع القصيدة هو بحثٌ عن ذلك العاقل الغائب وسطَ حالةِ الرّضوخ، وتكرارُ( مَنْ ) متصلةً هو محاولةٌ ملحاحةٌ للقاء هذا العاقل خصوصاً إذا وجدنا الفعلين ( قال، علّم ) قد نُسبت إليهما ( مَنْ ) وهما يجمعان القول والفعل .
كما نلحظ تكرارَ كلمة ( الوجود ) في سطرٍ واحدٍ مسندةً مرّتين إلى فعلين متضادّين ( وهل ترى منحتَني الوجودَ كي تسلبَني الوجودْ )
كلمة (الوجود) ليست سطحيةً في دلالتها على الوجود فحسب، بل تحمل دلالةَ الحرية وتحقيق الحياة المنشودة، وفي التكرار نلمح ظمأً لهذا الوجود المتصارع مع الفعلين ( منح ) ونقيضه ( سلب )، والفاعل في كليهما هو القيصر، فيغدو تكرارُ الوجود المنشود حالةَ بحثٍ عن تحقيق الوجود الفعلي، وتحقيقُ الوجود وعدمُه في يدِ القيصر.
ونجده يكّرر كلمةَ ( انتظرته ) مرّتين أيضاً، ودونَ فاصلٍ بينهما:
( فأخبروه أنّني انتظرْتُه انتظرْتُه )
نعلم أنّ الانتظارَ في الأمور الكبرى يستدعي امتلاكَ الانفعال والصّبر وزمامِ النّفْسِ جيّداً، والإنسانُ يكرّرُ كلماتٍ كهذه عندما يعاني من جرّاء ما عاشه لحظةَ الانتظار، فعندما يعبّرُ يجدُ أنّ ما حصل داخلَه أكبرُ أضعافاً من الفعل الحاملِ للمعنى الحاصل، فيلجأ إلى التكرارِ عساه يحتوي الجزءَ الأكبرَ من الحقيقةِ المنداحةِ في النّفْس.
أمّا فيما يتعلّق بالتكرار المتّصل للجمل فإنّنا نجدُه مرّتين:
وإنا لنمضى العمر سعيا لنشتري........ بأعمارنا عطرا يظل ..ونذهب
رد مع اقتباس رد مع اقتباس
#
20/08/2006 02:47 PM #3
زاهر جميل قط
* الملف الشخصي
* مشاهدة المشاركات
* رسالة خاصة
* مشاهدة مقالات المدونة
* زيارة الصفحة الرئيسية
* مشاهدة المقالات
زاهر جميل قط غير متواجد حالياً
شاعر مربدي زاهر جميل قط is on a distinguished road
تاريخ التسجيل
Feb 2004
الدولة
سوريا
المشاركات
95
معدل تقييم المستوى
7
رد : قراءة أسلوبية في نص شعري
يقول في الأولى:
و إنْ رأيْتُمْ طفليَ الذي تركْتُهُ على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناءَ
علّموه الانحناءْ ( ص 149 )
و قد ورد هذا التكرارُ في الوحدة الثانية من القصيدة في مرحلةٍ بدأ اليأسُ فيها يتسلّل إلى نفس سبارتكوس، و الهاءُ في الفعل ( علّموه ) عائدةٌ إلى طفل سبارتكوس، فهو بعد أنْ تمرَّدَ ضدّ الطّغيان خُذِلَ من قِبل الناس، و نهايتُه كانت على المشانق، فسخطُه على الواقع جعله يخشى على ابنه من بعده، فلا يريد له أن يكونَ ثائراً كأبيه، فلم يكتفِ بمرّةٍ واحدةٍ للدعوة إلى تعليم الانحناء، فتكرارُها دالٌّ على أنَّ الحياةَ تكونُ في عهدِ القيصر مقرونةً بالانحناء، و عدمُ الانحناء فيه تعريضُ النفسِ للموت، و قد كرّر الشاعرُ الجملةَ نفسَها في آخرِ النّصّ ثلاثَ مرّاتٍ متتالية.
يقول: و إنْ رأيْتُمْ طفليَ الذي تركْتُهُ على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناءَ
علّموه الانحناءَ
علّموه الانحناءْ ( ص 153 )
لقد وصل القائلُ ( سبارتكوس ) هنا إلى انكسارِه الأخير، فجاء التكرارُ صورةً عن هذا الانكسار الملوّنِ باليأس، و هذا التكرارُ للجملة متصلٌ، إذ لا فاصلَ بين الجمل الثلاث، فهو يشبه نهايةَ أغنيةٍ عندما يكرّرُ ملحّنُها جملةً أكثرَ من مرّة إلى أن يتوقّف اللحنُ.
و لنا أنْ نتصوّرَ أنّ القائلَ لجملةِ ( علّموه الانحناء ) بتكرارها جعلَنا نحسُّ أنّه مع كلّ تكرارٍ ينحني نحو الأرض، فالتكرارُ الأخير يختلف عن الأوّل و الثاني، إذ صار الأخيرُ حالةَ سقوطٍ و ارتطامٍ بالأرض على أنّ الأوّلَ كان بدايةَ الانحناء، و الثاني دلّ على زيادةِ الانحناء، و جاء التكرارُ الثالثُ ليسقُطَ معه سبارتكوس و حلمُه.
و في التكرار المنفصلِ نجد الشّاعرَ استخدمَ كلماتٍ كرَّرَها في مواطنَ متباعدةٍ و جملاً كرّرها أيضاً في مواطنَ متباعدة.
و من الأمثلة على تكرارِ الكلمةِ المنفصلِ قوله:
1- فلترفعوا عيونَكم إليّ
2- لربّما إذا التقَتْ عيونُكمْ بالموتِ في عينيّ
3- يبتسمُ الفناءُ داخلي لأنّكمْ رفعْتُمْ رأسَكَمْ مرّة ( ص 148 )
الكلمةُ المقصودةُ بالتكرار المنفصلِ هي الفعلُ ( رفع ) مسنداً في المرّة الأولى إلى واو الجماعة و في الثانية إلى تاء الفاعل المُتّصلِ بها ميمُ الجمع، و الملاحظُ أنّ بين كلّ تكرارٍ و آخر سطراً قام بمهمّة التعليل و التوضيح، فرفْعُ الرّأسِ و ما فيه من رفعةٍ و شموخٍ أصبح صعْباً في عهد القيصر، و القائلُ في دعوته هذه دعوةٌ للحياة بشموخٍ، و لأنّهم لا يسمعون كلامَه – كما هو واضحٌ – يحاول التعليل، فيتخذ التكرارُ هنا شكلَ طلبِ الشّيء المفقودِ المشكوكِ بعودته في ظروفٍ كهذه.
يقول:
و في المدى " قرطاجةٌ " بالنارِ تحترق
" قرطاجةٌ " كانتْ ضميرَ الشّمسِ قد تعلَّمَتْ معنى الرّكوعْ
و العنكبوتُ فوقَ أعناقِ الرّجالِ
و الكلماتُ تختنقْ
يا إخوتي : قرطاجةُ العذراءُ تحترقْ ( ص 153 )
نلمحُ ثلاثةَ تكراراتٍ لقرطاجة مسندةً إلى الفعل ( تحترق ) مرّتين و إلى فعلٍ ناقصٍ مرّة، فقد كانت قرطاجةُ تمثّلُ الحقَّ في مقابل روما التي تمثِّلُ الباطل ( 1 ).
و مع احتراقِ قرطاجةَ يحترق حلمُ سبارتكوس، فالتكرارُ هنا يحملُ الألمَ و الحسرةَ، و يؤكّد هذا تكرارُ الفعل ( تحترق) معها، فنحن نعرف ما يسبّبُ الاحتراقُ من ألمٍٍ، و لعلّه أقسى الألم.
أمّا فيما يتعلّق بالتكرارِ المنفصلِ للجملة فقد وردتْ أربعُ جملٍ تكرّرَتْ بشكلٍ متباعد :
يا إخوتي الذين يعبُرون في الميدانِ مُطرِقين ( 147 )
يا إخوتي الذين يعبرون في الميدانِ في انحناء ( 152 )
نلاحظُ كيف غيّر في الجملة الثانية لفظَةَ( مطرقين) إلى لفظة (انحناء)، و هما متقاربتان قليلاً في الدّلالة على الانكسار، إلّا أنّ لفظة ( انحناء ) جاءتْ جريئةً أكثرَ و هذا ربّما يناسبُ السّياق، فعادةً يبدأ الإنسانُ الحديثَ بعمومٍ و تحفّظٍ ثمّ ينطلقُ متحرّراً شيئاً فشيئاً ليُفصحَ في مرحلةٍٍ ما عمّا يريدُ و إن كان قاسياً بحقّ الطّرف الآخر، و يرى الدكتور عمرُ محمّد الطّالب ( أنّ المتكلّم " أنا " يأبى إلا أنْ يلجأَ إلى النّداء بوصفِه وسيلةً تحقّقُ التواصلَ مع الآخرين الذين تربطُ المتكلِّمَ بهم علاقةُ الأخوّة إذ يكونُ الّنداءُ مُعتمداً على علاقةِ تشابهِ وضعيّةِ كلٍّ منهما ) ( 2 )، و هذا النّداءُ بلفظة ( إخوتي ) جاء في مكانين متباعدين، و كأنّ هذا التكرارَ أُريدَ به التذكيرُ بالوضعِ العامِّ للناسِ في فترة القيصر، ففي أوّل القصيدة كانوا مُطرقين، و في آخرها ظهرَ رضوخُهم فباتوا مُنحنين، و هكذا يبقون لزمنٍٍ طويلٍ يتوازى معَ المسافة المكانيّة التي فصلتْ بين التكرارين في النصّ.
و يكرّر أيضاً جملةَ ( العنكبوتُ فوقَ أعناقِ الرّجال ) و جملةَ ( فقبّلوا زوجاتِكم إنّي تركْتُ زوجتي بلا وداع ) و جملةَ ( و إنْ رأيْتُم طفليَ الذي تركْتُه على ذراعِها بلا ذراع ) و تكرارُها كلِّها يصبُّ في مصبِّ الألمِ و التحسُّرِ و السّخرية أحياناً.
خلاصةُ القول : إنّ الشاعرَ وظّفَ التكرارَ ليؤدِّيَ غايةً دلاليةً انطوَتْ على الألم و المعاناة، فكلُّ المكرّرات – كلماتٍ و جملاً – جاءت دالّةً على حالة انكسارٍ و ألمٍ في واقعٍ يرضخُ للمستبدّين.
6- الضّمير بين الحضور و الغياب :
لعبتِ الضّمائرُ في النّصّ دوراً بارزاً في توجيه الدّلالة، و لعلّها خصيصةٌ أسلوبيةٌ واضحةٌ لقارئ النصّ، فمن اللافت للنظر دخولُ الضّمير إلى كلِّ كلمةٍ تقريباً في النّص، و لعلّ هذا محاولةٌ لاواعية لحشد المقهورين ليشكّلوا قوّةً تستطيعُ هزَّ عروشِ الظّلم، و هذا هو مقولةُ النّصِّ بشكلٍ عام.
إنّ تأرجحَ الضمير بين الغياب عن الفاعلية في الحدث، و الحضور على مستوى النّص يشكّل توتّراً و تناقضاً فهو موجودٌ و غيرُ موجود؛ موجود لأنّه يعيش و لكنْ بانحناءٍ، و غيرُ موجود لأنّه لم يمتلكِ القدرةَ على الفعل، و على هذا طغتْ ضمائرُ المُخاطَب على ضمائرِ المتكلِّم و الغائب، فضمائرُ المُخاطَب التي يُطلقُها سبارتكوس هي الطّاغية لأنّ الخطابَ أساساً موجّهٌ إلى هؤلاء المقهورين، فكثُرَ استخدامُ ضميرِ المُخاطَبِ آخذاً دورَه في التنبيهِ و التوعية.
يقول مثلاً :
لا تخجلوا و لْترفعوا عيونَكمْ إليّ
لأنّكمْ معلّقونَ جانبي على مشانقِ القيصر
فلْترفعوا عيونَكم إليّ
لربّما إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عينيّ
يبتسمُ الفناءُ داخلي لأنّكمْ رفعْتُمْ رأسَكمْ مرّة ( 148 )
يُلاحظ المقابلةُ بين ضميرِ المخاطب ( أنتم ) و هو للجمع، و ضميرِ المتكلّم ( أنا ) و هو للمفرد، إذ يحاول هذا الأخيرُ أن يشكّلَ حالةَ توازنٍ بين انهزامِ المخاطَب ( أنتم ) و صمودِ المتكلّم ( أنا ) أمامَ المستبدّ.
و يتجلّى التوازنُ من ناحيةٍ أخرى في ضمير المتكلّم في أنّه جاء بعد المخاطب من حيث الاستعمالُ، فوجودُه بين طرفين :المخاطب من جهة و الغائب من جهة أخرى محاولةٌ للتوازن بين الانحناء و اللاوجود.
و يتّضحُ ذلك في مطلع المزج الثاني إذ يقول :
معلّقٌ أنا على مشانقِ الصّباحْ
و جبهتي بالموتِ محنيّةْ
لأنّني لمْ أحنِها حيّةْ ( 147 )
فقد تكرّر ضميرُ المتكلّم ( أنا ) في ثلاثة أسطرٍ تأكيداً على الوجود و الفاعلية و إنْ كانت جبهتُه بالموت محنيّةً، و هو يمتلكُ القدرةَ على القيام بفعلٍ على الأقلّ و هو عدمُ الانحناء.
7- رمزيّةُ الألوان و قيمتُها الجمالية :
لم تكنِ الألوانُ في النصّ مذكورةً بشكلٍ صريح، و إنّما تجلّتْ في الموصوفات التي يُعرَفُ لونُها عند ذكرِها مباشرةً، فعندما نسمعُ الصّحراء لا بدّ أنْ نتصوّرَ مباشرةً أرضاً جرداءَ مقرونةً باللونِ الأصفر، فهناك موصوفاتٌ ثابتةُ الألوان.
و هذا ما لمسْناه في النصّ، إذ جاءتْ هذه الألوانُ متمّمةً فكرةَ الصّراع التي يتمحور حولَها النصّ، الصّراعُ بين الخير و الشّرّ في النتيجةِ الأخيرة ،و يمكنُنا استخراجُ الآتي ( الصّباح، المساء، الصّحراء، دمي، الشّجر، الرّبيع، البيضاء، الشّمس، الدّجى، الرمال، النار ).
و يمكننا تقسيمُ هذه الموصوفاتِ ذاتِ الألوان الواضحة على مجموعتين متقابلتين وفقَ ما يأتي:
أب
الصّباح المساء
الرّبيع الصّحراء- الرّمال
الشّمس – البيضاء الدّجى
البحر النّار
إنّ الصّباحَ يقابل المساء فهما ضدّان في وجهٍ من الوجوه، و يمكن عدُّهما ضدّين من حيث لونُ كلِّ واحدٍ، فالصّباحُ يرمزُ للبياض و الإشراق، بينما يرمزُ المساءُ إلى الزوال و بداية الظلمة، و هذه الثنائيةُ تساهمُ في إكمال مقولة النّصّ، و تفتح أفقاً أوسعَ لتصوّرِ صراع لونين هما الأبيضُ و الأسود،فهما يختصران الصّراعَ بين الخير و الشّرّ و يرمزان إليه.
و الرّبيعُ ممتلئٌ بالألوان و الأبرزُ فيه اللونُ الأخضر، و رمزيّتُه تميلُ إلى الخصب و النّماء، و يقابله الصّحراءُ و الرّمالُ ذاتُ اللونِ الأصفر و هي رمزٌ للقفر و العدم.
و الشّمسُ مصدرُ الإشراق تقابلُ الدّجى و هو اللونُ الأسود رمزُ الاستبداد، و تأتي المقابلةُ الأخيرةُ بين البحر والنار من حيث أنّ الماءَ ضدّ النّار، لأنّ النارَ حسبَ ما وردت في سياق النصّ انحازت إلى الفئة ب ، إذ اقترنَ استخدامُها بإزالة قرطاجة رمزِ الخير، يقول:
و في المدى " قرطاجةٌ " بالنّارِ تحترقْ
لذلك اتخذت لفظةُ النار مكانَها في الطّرف السّلبيّ، إذ تغدو مقابلاً للبحر الذي يطفئُ النارَ و يصارعُها حتى يقضيَ عليها.
إذاً لعبتِ الألوانُ دورَها المهمَّ في إتمام مقولةِ النصّ كما ذكرْنا، فالمقابلاتُ الحاصلةُ بين الألوانِ و الرّموز هي صورةٌ أخرى للصّراع النّاشب بين المستضعف و المتجبّر.
- خاتمة :
و بعد، فإنّ الأسلوبية استطاعتْ أن تلجَ إلى مكوّناتِ النّص الأدبيّ و تستظهرَ ما فيه من خصائصَ أسلوبيّةٍ تساهمُ في بناء مجالٍ دلاليّ تحرصُ الأسلوبيةُ على وضعه ضمنَ اهتماماتِها.
و قد خلصْنا في بحثنا هذا إلى أنّ لكلّ نصٍّ خصائصَه الأسلوبيةَ المستقلّة، فما يكون في هذا النّص قد لا يكون في نصٍّ آخر، و عليه فإنّ اختلافَ الخصائصِ الأسلوبية و توظيفَها يؤدّي دلالةً معيّنةً تكشفُ الأسلوبيةُ عنها ليجدَ القارئُ فيها معانيَ أخرى لم يكنْ يتصوّرُها لولا التعاملُ مع النّصِّ أسلوبياً ،و لعلَّ الشيءَ الأهمّ الذي وصلْنا إليه في دراستنا المتواضعةِ هذه هو أنّ الخصائصَ الأسلوبيةَ جميعاً جاءتْ مرتبطةً بالنسيج العامّ للنّصّ، و ما توظيفُها فيه و الإتيانُ بها إلا للإحاطة بالموضوع و الأفكارِ المرادِ التعبيرُ عنها، و تقديمِها بشكلِها الأقرب لما يجول في خاطر الشّاعر، و قد عُهِدَ عن أمل دنقل براعتُه في استخدام اللغة و التعاملِ معها بتقنيةٍ خاصّةٍ و بذلك يكون المنهجُ الأسلوبيُّ قادراً أكثرَ من غيره على التعامل مع نصوصٍ كهذه إذ يكشفُ عن مكنوناتٍ و خفايا قد لا تُبلَغُ إلا بوساطة الأسلوبية.
ثبت المصادر والمراجع :
الأسلوب ، أحمد الشايب ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ط 6، 1966
الأسلوبية والأسلوب ، د. عبد السلام المسدّي ، دار سعاد الصباح ، الكويت ط4 ، 1993 ( نسخة مصوّرة )
الأسلوبية والنص الأدبي ، حسين بوحسون ، مجلة الموقف الأدبي العدد 378 تشرين أ ،2002
الأعمال الشعرية الكاملة ، أمل دنقل ، مكتبة مدبولي ، القاهرة د ت
الانزياح في التراث النقدي والبلاغي ، د . أحمد محمد ويس ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2002
الانزياح واللغة الشعرية : عبد الرحيم أبطي مجلة علامات ، مج / 14 ، ج 54 ديسمبر 2004
البلاغة والأسلوبية ، د. محمد عبد المطلب ، مكتبة لبنان ناشرون ، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان – القاهرة ط1 ، 1994
بنية القصيدة العربية المعاصرة ، د. خليل الموسى، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2003
تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ) د . محمد مفتاح ، دار التنوير بيروت ط1، 1985
الجملة في الشعر العربي ، د. محمد حماسة عبد اللطيف، مكتبة الخانجي القاهرة ط1 ،1990 ( نسخة مصوّرة )
الخصائص ابن جني ، تحقيق: محمد علي النجار ، دار الهدى بيروت د ت
دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق :محمد رشيد رضا ، دار المعرفة بيروت 1978
دليل الدراسات الأسلوبية ، د. ميشال جوزيف شريم ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ط1 ، 1984.
زمن الشعر ، أدونيس، دار العودة بيروت 1978 .
ظواهر فنية في لغة الشعر العربي الحديث ، علاء الدين رمضان السيد منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1996.
عزف على وتر النص الشعري ، د . عمر محمد الطالب ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2000
علم الدلالة ( أصوله ومباحثه في التراث العربي) ، د . منقور عبد الجليل ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2001
مع البلاغة العربية في تاريخها ، د . محمد علي سلطاني ، دار المأمون للتراث ، دمشق ط1 ،1978 ( نسخة مصوّرة )
مفاهيم الشعرية ، حسن ناظم ، المركز الثقافي العربي، بيروت 1994 ( نسخة مصوّرة )
مقالات في الأسلوبية ، د. منذر عياشي ، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1991
نحو نظرية أسلوبية لسانية ، فيلي ساند يرس ، تر : د . خالد محمود جمعة دار الفكر، دمشق 2003.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى