نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
صفحة 1 من اصل 1
نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
باقر جاسم محمد
الحوار المتمدن - العدد: 1831 - 2007 / 2 / 19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع Bookmark and Share
كيف تأتي الحداثة إلى العالم؟ كيف تولد؟ و من أية انصهارات و تحولات و اتحادات تـُصنع؟ كيف تعيش، صارمة ً و خطرة ً كما هي؟
ألم يحن الوقت بعد للتوقف عن النظر إلى اللسانيات بوصفها حلا ً لمشكلة الصفة العلمية scientificity للعلوم الإنسانية؟1 فقـد تكـون اللسانيات جـزءا ً مـن المشكلة أكثر من كونها حلا ً. و لكن أي نوع من المشكلات هي؟ يمكننا أن نوضح هذا من خلال مثال قصير. نحن قد عدنا إلى الخلف إلى العام 1615 في شمال- شرق قارة أمريكا الشمالية الهائلة و هنا كان هناك جوال غابات قد قرر مغادرة منطقته الريفية الفرنسية غير الخصبة للعيش في غابة فرنسا الجديدة من أجل المتاجرة بالفراء. و قد تم أخذ كل شيء بالحسبان، فجوال الغابات غير المتعلم هذا، و بدون مفردات، أو نحو أو حتى أبجدية لتوجيهه، سوف يتعلم في وقت قصير نسبيا ً لغة الأمم الهندية التي يتاجر معها.
ما هو نوع ’ الإطار النظري‘ الذي استثمره للحصول على مثل هذه النتائج المباشرة في اكتساب لغة ليست هندية- أوروبية و هي مجهولة تماما ً[ بالنسبة لـه. المترجم]؟ و بوساطة أي نوع من الميتالغة metalanguage قد أدرك المشكلات اللسانية التي واجهها، و قبل أقل بقليل من نصف قرن من طبع كتاب جماعة بورت- رويال النحو العام و المنطق، تلك الدراسة ذات اللغة الفرنسية الواحدة التي لم يكن بمقدور شخص في مثل حالته أن يتمكن – أو أن يسمح لـه – بقراءتها؟ و حين يحدث ذلك في وقت لم تزل فيه اللسانيات غير متخيلة و غير مفهومة بعد، فإن هذه الأحداث تؤدي إلى الاستنتاج بأن هنالك مشكلة واقعية تماما ً فيما يخص المكانة العلمية لهذا الحقل العلمي.
إن ’المفاهيم‘ الأساسية التي استعملها هذا الرجل لفهم اللغة الأجنبية يمكن أن تـُعَـدَّ حاليا ً أيديولوجية؛ و لكن الواقع هي أن ممارسته مكنته من أن يعرف تماما ً لغة هندية لا يعرفها في أيامنا هذه كثير من المختصين الممتازين بأصول الأعراق. و على هذا النحو نصل إلى محور المشكلة الحاسمة للمعرفة الحدسية gnoseology ( نظرية المعرفة theory of knowledge) [1]
تقصر هذه الواقعة البسيطة المسافة بين أيديولوجيتي المعرفة الحدسية الرئيسيتين و تدمجهما معا ً: الطرائق العلمية المعتمدة من العلماء scienticism (’ لم نعرف آنذاك و لكننا نعرف الآن. اليوم قد وجدنا نهاية المعرفة و نهاية التاريخ‘ – و مع ذلك و في الحقيقة ، قد عرف جوال الغابات آنذاك شيئا ً ما)؛ و اللا أدريه agnostiscism (’ لن نعرف قط في كل الأحوال. و قد وجدنا بأن المعرفة و التاريخ همـا متصل أبـدي eternal continuum دون أية خـطوة أو فـجوة‘ – بينـما في الحقيقة، قـد عرف جوال الغابات حقا ً شيئا ً ما). و من المهم أن نفهم العلاقة الحميمة بين أيديولوجيات المعرفة الحدسية و تلك التي تخص التاريخ. فليس من الممكن الفصل بينهما. و بذلك فإن الطرائق العلمية هي نظرية ضد- تاريخانية anti-historicist للغائية التاريخية historical finalism. و هـذا يعني أن هؤلاء الذين اعتقـدوا بالسلطة النهائية للعلم قد اعتقدوا أيضا ً أن الواقع التاريخي لم و لا يجب أن يتغير جذريا ً الآن. و اللا أدريه هي نظرية مع- تاريخانيـة pro-historicist للجبريـة التاريخيـة historical fatalism. إنهـا الاعتقـاد بـأن ’ الأشياء تتغير دائما ً‘ و بأنه ’ سيظهر دائما ً شخص ما مع فكرة جديد‘. إن تعقيد الواقع ينبهنا إلى رفضهما كليهما معا ً.
و النظرية المقترحة هنا بالنسبة لمسألة المعرفة الحدسية هي من نوع المادية الجدلية(’ قريبا ً نعرف أكثر، و ما يجب معرفته ليس له من نهاية‘). و هذه الفرضية هي في آن واحد ضد- علمية و ضد- لا أدريه. و نتائجها جدلية. و القضايا التاريخية هي هنا حاسمة أيضا ً: فما ندعوه معرفة هو في آن واحد ’صادق‘ من وجهة النظر الممارسة التاريخية المحلية التي تنتجه و تحتاجه، و ’زائف‘ من وجهة نظر نظام المعرفة الناتج من فترة تاريخية لاحقة و أعلى تقدما ً [ أي أنه يتصف بالنسبية. المترجم]. هنالك انصهار و صراع جدلي ( و توتر) ل ’لأيديولوجيا‘ و ’العلم‘ في المعرفة knowledge الخاصة بفترة زمنية معينة . و نعني بكلمة علم معرفة لها صلة بواقع معين أنتجتها ممارسة جابهت هذا الواقع. و نعني بالأيديولوجيا وعي منعكس للواقع. مثلا ً: مقولة أن ’ الشمس هي مركز الكون‘ يمكن أن تـُدعى هذه الأيام نظرية أيديولوجية ، على الرغم من أنها لم تكن كذلك عندما قيلت للناس الذين يعتقدون بأن الأرض كانت هي مركز الكون. إن جوال الغابات و الهنود قد تاجرا معا ً. و ممارستهما أنتجت معرفة علمية. و قد ’اشتغلت‘ تلك المعرفة، فتمكنوا من التحدث. و حتى إذا ظلوا عند مستوى التقنية البسيطة، فإن علم اللغة مهتم كليا ً بالنتيجة التي حصلوا عليها. أفرض أنه، و في زمان محدد، كان ما تحدثا به هو نوع من اللغة المشتركـة lingua franca ، و أفرض أيضا ً بأنه، و في تلك اللحظـة، سألهم أحـد الأشخاص عن ماهية اللغـة التي استعملاها حينما تاجرا مع بعضهما. فإن من الممكن، كما يقرر ذلك المختصون بالرطانات و مزيج اللغات المحلية و الأجنبية pidgin and creole التي تستخدم في البلاد المستعمرة و في الموانئ ، أن كلا ً منهما سيكون معتقدا ً أنه هو الذي تعلم لغة الآخر. و عندها سيظهر التوتر( الانصهار و الصراع) بين الأيديولوجيا و العلم. إنهما يعرفان كيف يتصل بعضهما بالبعض الآخر و سيحاولان بكل ما يستطيعان أن يوضحا هذه المعرفة. و حتى عندما تكون تفسيراتهما حول قدراتهما الاتصالية مغلوطة فإن ممارستهما تنتج معرفة ’تقنية‘ واقعية. و المعرفة الحدسية ذات الصلة تعِـدُّ مثل هذا التوتر بين الأيديولوجيا و العلم في المعرفة بوصفه ثمرة التغير التاريخي. و أيضا ً فأنه ليس هنالك من نظام من البديهيات القبلية بالنسبة للمعرفة الحدسية نفسها: و التاريخ يعيد إنتاجها و يغيرها بثبات أيضا ً.
و هذا يجعلنا نواجه مشكلة تاريخ اللسانيات. بما أن اللسانيات( مثل أي علم آخر) ليست حقلا ً يطفو بحرية دون رابطة ما، فهناك علاقة قريبة بين التوتر الجدلي للأيديولوجيا/ العلم في محتواه و في تاريخانية نشوئه. و كما صاغ تايلور هذه المسألة في الفصل الأول، فإن طاقة مذهلة قد صُرفت، في اللسانيات الحديثة، لنزع العمل من سياقه و ’تجريده من تاريخه‘ ahistoricizing. و هذا الأمر لم يكن قط عملا ً بريئا ً. و غرضي هنا هو أن أحارب هذا الاتجاه بفرضيات من أجل مدخل مادي تاريخي إلى تاريخ اللسانيات. و الأمر الأبعد من النتائج المحددة، هو ما أقترحه من إطار نظري و منهجي يمكن أن يسمح بمدخل جديد إلى المشكلات المتعلقة بتاريخ اللغة.
توجد طريقتان رئيسيتان لكتابة تاريخ حقـل معرفي فكري ما an intellectual discipline. الأولى هي التدوين التأريخي histeriography : و هي التسلسل الزمني للأحداث الفكرية كما لو كانت تنطوي على استقلال عن السياق التاريخي histeriosity و النتيجة هي قلب التاريخ inversion of history. أما الثانيـة فهي الطريقة التاريخانية historicism: و هي تمثل ردَّ فعل على الأولى، و تضع كل حادث عقلي في علاقة مباشرة مع ما يمكن أن يُـسمَّى بسياقه ’الحكائي- التاريخي‘. و النتيجة هي إعطاء صورة مصغرة عن التاريخ.
من الممكن إقامة علاقة بين التدوين التاريخي و العلموية scienticism : و سيكون مطلوبا ً منا بعد ذلك أن نصبح شهودا ً لما يُـسمَّى الحركة التاريخية لعلم يطفو حرا ً . و من الممكن أيضا ً إقامة علاقة بين التاريخانية و اللا أدريه: و نكون بعد ذلك شهودا ً لتاريخ حبكات شحيحة لحقل مؤسسي ليس له من معرفة موضوعية حقيقية أو معلومات يمكن أن يجهزنا بها.
و يترتب على ذلك، أن ثروة أو ميراث مؤرخ اللسانيات في أيامنا يتأرجح بين تنويع من العلموية و تـنويع من اللا أدريه. دعنا ننظر في بعض الأمثلة.
الحالة التي تمثل ما أسميه التدوين التاريخي (التسلسل الزمني للأحداث العقلية كما لو كانت تنطوي على استقلال عن السياق التاريخي) هي على النحو الآتي:
( استنادا ً إلى تعاليم سوسور فإن مثيري قضايا الصوتيات الوظيفية يمكنهم التعويل في تأسيس نظريتهم – فقد هيأت، في الواقع، ثنائية اللغة / الكلام الأرضية ... و الأكثر من ذلك، على الجزم بأن ’ في اللغة، هنالك فقط الاختلافات‘: فكل الصوتيات الوظيفية، التي يكون العنصر الأول فيها هو خصيصة الاختلاف، هي هنالك موجودة في حالة جنينية.)
( ليروي 1970: 80- 1)
هنا، أحد المفاهيم هو ’ هيأت الأرضية‘ لظهور آخر: نحن في عالم الطواف الحر للتغير العلمي. و حين أقول بأن نتيجة مثل هذا التقديم هي قلب التاريخ، أعني أن سلوك الممثلين الاجتماعيين يبدو كما لو أنه قد أعطي مرتبة ثانوية بالنسبة لمصير الأفكار التي يشتركون فيها. فتقديم ’المدارس‘ اللسانية المتتابعة زمنيا ًهو ليس بغير شبيه [ أي أنه يشبه. المترجم] صور الانحطاط المؤقت التي ترينا الخطوات الرئيسية لتفتح زهرة فكرية.
إن المعارضة بين ثنائيتي التدوين التاريخي / التاريخانية هي ما يمكن أن ندعوه ’ الثنائية النظرية‘. و الثنائيات النظرية هي، في التحليل الجدلي للواقع، ليست متعارضة جذريا ً. فالعلاقة بين التدوين التاريخي و التاريخانية هي في حقيقة الأمر أكثر تعقيدا ً: فالتوتر بين هذين المصطلحين يؤدي ببطء إلى مصطلح ثالث. واقعيا ً فإن خطابا ً مثل المقتبس أعلاه، سواء أكان ذلك قصديا ً أم لا، يعمد إلى اختيار متحيز للواقع الذي يصفه. و لكن التضاد الجدلي لما تمت رؤيته( أو لنقل ما تم نسيانه أو إخفاؤه أو كان غير معروف) لا يمكن أن يُـفرغ تماما ً. و هذا يعني بأننا، كما هي الحالة في أي واقع جدلي، سنلاحظ في التدوين التاريخي، بوصفه افتراضا ً أيديولوجيا ً للمؤرخ، حضور نقيضه ( التاريخانية). في الواقع أننا نرى هنا أيضا ً ’الذين متعهدي الصوتيات الوظيفية‘ يقرؤون بعناية سوسور بحثا ً عن مناقشات تسند نظرياتهم الجديدة. و تظهر أيضا ً آثار من المادية التاريخية: نحن بطريقة ما نتمكن من فهم أن المختصين بالصوتيات الوظيفية هم بمعنى ما يحاولون إخفاء واقعة أن نظريتهم تنشأ من مكان ما غير الفكر ( البنيوي).
في الأوصاف مثل تلك التي ستذكر لاحقا ً لدينا ما أسميه التاريخانية، و هي ردة فعل على الموقف الأول الذي يضع كل حادث عقلي في علاقة مباشرة مع ما يمكن أن يُـسمَّى بسياقه ’الحكائي- التاريخي‘.
( على الرغم من أن سيشيهاي Sechehaye و بالي Bally قد أكدا على شكلانية سوسور في [ طبعتهم] لمحاضرات في اللسانيات العامة فإن ميليه Meillet و هو أحد الواقعيين من الجمهورية الثالثة، قد وجد أن الشكلانية غير مقبولة.) و قد هيمن ميليه على اللسانيات في الجامعات الفرنسية حتى وفاته في 1936. و مصير غييوم كان مثالا ً على تلك الهيمنة. فلم يكن بالإمكان تعيين أي أحد بصفة لساني بدون مصادقة ميليه. فما أن يتكلم ميليه، حتى يتبعه الجميع.
( الفارس و المحبرة 1984: 61-2)
نحن هنا في عالم عملي شحيح لوسيلة التحايل و التأسيس. و شخصية الرجل في موقع السلطة تبدو مركزة و متطرفة, توضح ما كانت اللسانيات و ما لم تكنه في مرحلة معينة. عندما أقول ذلك فإن نتيجة مثـل هذا التقديـم هي تخفيـض التاريخ، أعني أنه يظهر الفاعلون الاجتماعيون الآن( و قد جرى عموما ً تخفيضهم إلى ’ شخصيات قوية‘) كما لو أنهم يمتلكون سيطرة كاملة على الأفكار التي ينتجونها. و المؤرخ هنا يعيد إنتاج عالم شبيه بعالم الرسوم المتحركة، مبسطا ً الوقائع الاجتماعية إلى سلوك الشخصية الكارتونية. و هنا أيضا ً، نلاحظ في وضع المؤرخ الأيديولوجي حضور نقيضه – التدوين التاريخي. إن الصراع بين ’فكرة‘ الشكلانية و ’فكرة‘ التجريبية أو ’الواقعية‘ ما زالت قائمة هناك، و هي، فيما يبدو، ’ مُـفسَـرة‘ من خلال إرادة الأقوى. أخيرا ً تظهر أيضا ً آثار من المادية التاريخية. و قد يعتـقد بعض القراء أن كل هذا المشهد الهزلي هو ’ في أسلوب الجمهورية الثالثة‘ – و هذا يعني، أنه نتاج منظمة السلطة بالغة الخصوصية و الغرابة في تلك الفترة من تاريخ بلد أوروبي.
يبدو إن التدوين التاريخي، و التاريخانية و في بعض الأحيان مزيج من كليهما هو الإرث النظري الرئيسي لمؤرخ اللسانيات في الوقت الراهن. و لكنه الوقت المناسب الآن لإبعاد أنفسنا عن هذا النوع من التناقض الدوري البندولي لمدخلين غير المكتملين اللذين لم يستطيعا أن يفهما على نحو صائب المسألة الحاسمة التي يسميها كراولي( الفصل الثاني) بالعوامل الخارجية، و هي ما سأدعوه بالتاريخانية.
لفهم أهداف ( أو واجبات) تاريخ اللسانيات كما نقترحها، إنه في المرتبة الأولى من حيث تضمنه كل الأهمية في تفسير ما نعنيه بمصطلحات التاريخ و علم التاريخ. فالتاريخ هو تطور البنيات و الصراعات الاجتماعية بوصفها واقع موضوعي، المستندة على التنظيم الملموس للإنتاج المادي. و علم التاريخ هو العلم الذي يدرس البنيات و الصراعات الاجتماعية بوصفها واقع موضوعي، المستندة على التنظيم الملموس للإنتاج المادي. و علم التاريخ غالبا ً ما يسمَّى خطأ ب’التاريخ‘ كما لو كان ذلك إشهار محاكمة. التاريخ هو الواقع المعقد الذي ننتجه و في الوقت نفسه نحاول أن ندرسه( من خلال علم التاريخ).
استنادا ً إلى ماركس ( الأيديولوجيا الألمانية؛ للإطلاع على الاقتباسات و المناقشة، أنظر لوريندو 1990: ملاحظة 2) ليس هنالك تاريخ للسياسة، و القانون، و العلم، و الدين و هلم جرا لأن أنماط الواقع هذه ( سواء أكان ذلك على نحو مباشر أم غير مباشر) هي أنماط نشوء لما عرفناه هنا على أنه تاريخ. و لفهم هذه النقطة المهمة بوضوح، نحتاج فقط للتفكير في الأدوات tools. بما أن المحرار، مثلا ً، ليس بكائن حي، فهل سيكون ’ تاريخ المحرار‘2 دراسة جادة بدون الإشارة إلى النظام الاجتماعي الذي ينتج و يحتاج هذه الأداة المحددة و الذي يُـحَسِّـن و يلاحق دون انقطاع عملية تحسين كل أنماط التكنولوجيا؟ هل يمكننا أن نتحدث جديا ً عن محرار صناعي ما دون التكلم عن إيجاد الجواب للمسألة التي هو منغمس فيها، و عن العامل workerالذي يسعى لإيجاد الحل هذا، و المصنع الذي ينتجه؟ ما هي الفائدة من تدوين ’شلال‘ من التسلسل الزمني للمحارير عبر القرون، أو الوصف التام لحالات الفهم و عدم الفهم للأفراد البارزين الذين منحوا المحارير شكلها في سياق تطور العالم؟ و ما هو عنصر اهتمام ’ تاريخ‘ المحرار ما لم يكن عملية التأريخ historization لهذه الأداة؟ و نستطيع تطبيق المناقشة نفسها على مؤسسات و نظريات أكثر تعقيدا ً – و ، بالطبع، اللسانيات.
لأن المعرفة شيء أكثر تعقيدا ً من أداة بسيطة، يجب أن نشتغل ضمن إطار ذي بعد تاريخي مثير للجدل يعكس الفرضيات التي جرى تقديمها في أعلاه حول مسألة المعرفة الحدسية. و المثير للجدل يمكن صوغه على النحو الآتي: ينبغي علينا أن ندرس مشكلة حقل معرفي فكري ليس لـه قط استقلال عن التاريخ و حركته صعودا ً و نزولا ً، و هذا ما يمكن أن يجعلنا نقترب شيئا ً فشيئا ً من معرفة علمية صادقة للواقع. إن هدف مؤرخ علم اللغة هو أن يجعل هذه العبارة ’ شيئا ً فشيئا ً) واضحة – أعني، أن يركز الانتباه على العلاقة الجدلية المعقدة بين عدم الاستقلال و الاستقلال هذا.
و لتلخيص ما سبق، فإن تاريخ اللسانيات لا ينبغي أن يكون تدوينا ً تاريخيا ً و لا تاريخانية، و لكن عملية تأريخ لهذا الحقل المعرفي العقلي. و هذا يتضمن فرضيات نظرية معينة حول التاريخ. و تزودنا المادية التاريخية بالإطار العام ل’ نظرية النشوء‘. و ترى هذه النظرية في كل مدرسة لسانية نتاجا ً غير مباشر و مستقل نسبيا ً عن السياقات الاجتماعية- التاريخية، و تسعى إلى وصف نشوء المدرسة اللسانية، منطلقة من الخلف من نتائجها الراسخة نحو الخليط الكامل لمصادرها النظرية و المادية.
كل أنماط التمثيل العقلي( الأيديولوجيا، و النظرية، و العلم) هي، من وجهة نظر تاريخية، نشوء ينبثق مـن التاريخ – مـن الشروط المحددة للممارسة في مجتمع محدد. و الظاهرة، بوصفها نشوءا ً، تتضح في سياق ’محدد سلفا ً‘. و يمكننا تخيلها بوصفها انبثاقا ً لسائل أو ظهورا ً لموجة، واضعين في حسباننا أن هذا هو مجرد تمثيل مفيد و ليس عملية تحويل مادي لمشكلتنا بالغة التعقيد. أنه يتبنى توسيعا ً، و ينبغي دراسة كثافة هذا التوسيع و حدوده. و كلما كان هذا التوسيع عريضا ً أكثر ، كان هذا النشوء أكثر قدرة على الذوبان في محيطه و الامتزاج معه( أنظر كاميرون في الفصل 4 حول نشوء اللسانيات الاجتماعية و توسعها).
و بوصفها نشوءا ً أو ظهورا ً، فإن الظاهرة العقلية لها كذلك مصدر أو مجموعة مصادر هي التي يجب أن نعثر عليها. و لكن الظاهرة تظل قائمة، حتى و إن نضبت هذه المصادر، و بخاصة إذا ما كانت ترتبط بتناغم مع أنماط النشوء الجديدة الآتية من مصادر جديدة. هذه الترابطات يمكن لها أن تقودنا إلى الاعتقاد باستقلال أنماط النشوء. و كذلك المصادر المؤسسية الرئيسية للظاهرة يمكن لها أن تقودنا إلى الاعتقاد بتاريخانيتها.
إن كل نشوء هو دائما ً في تناقض contradiction مع أنماط النشوء الأخرى. و النشوء هو دائما النتاج الجمعي للأولئك الذين يصنعونه و للأولئك الذين يتقبلونه. و على هذا النحو ليس هناك شيء مباشر و ليس هناك شيء بسيط ( قدم كل من فرانسواز كاديه Francoise Gadet و مايكل بيشو Michael Pecheuxملاحظـات أوليـة مفيـدة حـول ظاهرة النشوء: أنظر لوريندو 1990).
ليس هناك من عمل قد أنجز في نظرية النشوء، و لكن بعض البحوث قريبة من أهدافه. فمثلا ً، يصـف تشيرفيل Chervel (1981) نـشوء النـحو المـدرسي الفـرنسي ( grammaire scolaire). و المصدر الأساس للنشوء هو الجهاز المدرسي. فهناك عدد من التناقضات التي يجري تحليلها: التناقض بين النحو التأملي للقرنين السابع عشر و الثامن عشر و تعليم القراءة (بخاصة الإملاء) في القرن التاسع عشر: التناقض بين ثبات و جمود ما يجري تعليمه و تطور اللغة الفرنسية. و تأخذ آثار هذه التناقضات في النحو المدرسي شكل نزعة انتقائية خاصة بها ( حول هذا المفهوم النظري أنظر لوريندو 1990) و هذه النزعة الانتقائية تعطينا مفتاحا ً مناسبا ً للطبيعة العملية للنشوء. و نراها بشكل واضح في وصف فعالية الأستاذ المدرسي في القرن التاسع عشر المزود بكتاب تشيرفيل3 . إن المفهوم الأيديولوجي( بمعنى المنعكس) للنحو المثالي idealistic النخبوي المفروض على الناس بوساطة إلزام تسلطي obligarchy قد جرى استبداله بوصف الحالة حيث تبدو الممارسة الجماعية و التدريجية لعملية تدريس / تعلم ’الفرنسية‘ ( يعني تهجئة محددة للفرنسية ، استنادا ً إلى الاعتقاد بأن الإملاء هو اللغة)[ تبدو] بوصفها القوة الموضوعية الحقيقية التي أنتجت النحو المدرسي.
إن طريقة تشيرفيل داخلية، مقارنة و تاريخية. إنه يعمل على رأسمال من أنماط النحو للقرنين التاسع عشر و العشرين و يصف تطور عدد محدود من الفئات النحوية. و تكشف ’أنماط النحو‘ المختلفة عن نفسها بوصفها نسخا ً متوالية لوصف غير مكتمل و متردد لواقع اللغة. و هذا ما يفهمه المؤرخ على أنه نقطة منهجية غاية في الأهمية: يبدأ التحليل الملموس في تاريخ اللسانيات من خلال تحليل خطاب اللسانيين أو النحاة.
إن استنتاجات تشيرفيل متشككة و مفندة: إذ بالنسبة له، ليس النحو المدرسي سوى أيديولوجية المطابقة التي أنزلت منزلة واقعية في تعليم الإملاء. و بمعونة الإطار النقدي الذي نمتلكه الآن، فنحن نعرف بأية طريقة ينبغي إكمال هذا التحليل. من الممكن القول إنه تحت أسطورة النحو لم تكن هناك معرفة على الإطلاق. كان هذا الإطار القمعي الضيق لعقود خلت الموضع الوحيد للتفكير ’النظري‘ حول اللغة الفرنسية. و ينبغي الآن كتابة مجلد ثان ٍ لتاريخ النحو المدرسي، يصف كيف، و من خلال التفنيد و الصراعات الاجتماعية، يمكن لنوع من المعرفة و العلم أن يصون نفسه تحت سلطة نزلاء النحو التقليدي.
إن هذه المشكلات المنهجية حاسمة على نحو مطلق و ليس هناك من قاعدة ذهبية فيما يخص هذه المسألة. و سأذكر بضعة عناصر منهجية من تلك التي يجب أن تبحث عنها نظرية النشوء في أعمال مؤرخي اللسانيات. و لأنني أعتقد بأن عملية التأريخ historization للسانيات لن تنجز بوساطة المؤرخين الذين يقدمون أنفسهم للسانيات و لكن الأصح بوساطة اللسانيين اللذين يقدمون أنفسهم لعلم التاريخ، أقترح أن نقطة البدء لمثل عملية التأريخ هذه هي البحث الجدلي في اللسانيات نفسها( أنظر لوريندو 1990). و لكونها محللة – في المرحلة الأولى – من وجهة نظر جدلية ( اقترح جولدمان 1959: 26-44 عناصر منهـج لمثل هذا التحليل؛ أنظر لوريندو 1986b)، تبدو اللسانيات بوصفها مسرحا ً للتناقضات النظرية و المنهجية التي ستكشف عن نفسها – في المرحلتين الثانية و الثالثة – بوصفها تحويلات معقدة للغاية للصراعات الأيديولوجية و المادية للمرحلة التاريخية ( أنظر، مثلا ً، استنتاجات تشيرفيل على النزعة الانتقائية للنحو المدرسي). و المثال الآخر هو نشوء التاريخ بوصفه عاملا ً معرفيا ً في عدد من الحقول المعرفية في القرن التاسع عشر مثل علوم الحياة و الاقتصاد السياسي و اللسانيات.[2] هنا ، توجد علاقة معقدة مع حوادث هذه الفترة، و بخاصة الفتوحات الاستعمارية و الثورات.
و فوق كل ذلك، سيكون المدخل إلى نصوص اللسانيات مهما ً جدا ً ( قارن جوزيف، الفصل الثالث). هنالك طريقتان في تناول نص ما. فلدينا مدخل ’الدرجة الأولى‘ ( حيث يميل النص إلى أن يؤخذ بذاته أو بما يتكلم حوله) و مدخل ’الدرجة الثانية‘ (حيث يميل النص إلى أن يؤخذ على أنه تأمل لشيء آخر أو شيء أكبر منه نفسه أو ما يتكلم حوله).
في مدخل ’الدرجة الأولى‘ نلاحظ أيضا ً موقفين. الأول إما أن يكون مدرسيا ً scholastic أو تفنيدي polemic. و نأخذ في الحسبان مضمون النص على أنه حقيقة تامة( أو على أنه شيء يمكن التعامل معه على أنه حقيقة) و نحاول أن نحترمه ( أو في الأقل أن نظهر بأننا نحترمه)، أو نأخذ في الحسبان مضمون النص على أنه زائف تماما ً (أو على أنه شيء يمكن التعامل معه على أنه زائف تماما ً) و نحاول رفضه (أو في الأقل أن نظهر بأننا نرفضه). و هذا الزوج الدوري يُـقارن بموقف ثان ٍ: هو الموقف النقدي.
في مدخل ’الدرجة الثانية‘ نلاحظ أيضا ً موقفين. الأول إما أن يكون توثيقيا ً أو رمزيا ً. و نعامل النص على أنه مصدر للمعلومات: ليس من النوع المباشر، كما لو كان نوعا ً من صحيفة صباحية، و لكن من النوع غير المباشر و تقريبا ً غير المقصود( و نتعامل معه كما لو أنه صحيفة صادرة في العام 1850، مزودا ً إيانا بالكثير من المعلومات التفصيلية حول كيفية عيش الناس في ذلك الوقت)، أو نتعامل مع النص بوصفه نظاما ً غير مباشر و قصديا ً تقريبا ً لتشفير ( الرموز) التي يمكن تحليلها بالارتباط مع تمثيلات ثقافية محددة. و هذا الزوج الدوري يُـقارن بموقف ثان ٍ: هو الموقف التأويلي.
إن الموقف النقدي هو تجاوز الموقف المدرسي - التفنيدي بينما الموقف التأويلي هو تجاوز للموقف التوثيقي – الرمزي. و بالطبع فإن المفاهيم القديمة لما هو نقدي ’critique‘ أو ما هو تأويلي ’hermeneutic‘ قد جرت إعادة التحقق منها كليا ً بطريقة مادية تاريخية بوساطة نظرية النشوء. و نعني بالنقدي قراءة من الدرجة الأولى، تلك التي تسلـِّم بوجود التوتر بين العلم و الأيديولوجيا في كل نتاج فكري، و هي لا تجهد نفسها بالبحث عن ما هو صادق و ما هو زائف أكثر من بحثها عن تجسيدات الصراع بين الفرضيات. و بالعكس، نعني بالتأويلي قراءة من الدرجة الثانية، تلك القراءة التي لا تبحث عن المعطيات أو الرموز... و لكن عن مفاتيح الواقع الاجتماعي التاريخي في النص. و الممر من الموقف النقدي ( الجدلي) إلى الموقف التأويلي ( المادي) هو الطريقة الشاملة التي اقترحتها نظرية النشوء.
إن البحث عن التناقضات هو إذن أحد الأهداف الرئيسية لنظرية النشوء. دعنا لا ننسى بأنه، بوصفها منهجا ً جدليا ً، فإن نظرية النشوء لا تعتد بوجهة النظر السلبية للتناقض لأن ما يملأ الفم من ملاحظات متكررة لكل أنماط الخطاب ترغب بأن تكون ’علمية‘. و كما يقرر الفكر الماركسي، فإنه لا ينبغي لنا أن ندهش ، عندما نبحث عن جوهر الأشياء، فنواجه تناقضات أكثر فأكثر... لأن التناقض هو جوهر الأشياء.
أول أنماط التناقض الذي ستبحث عنه نظرية النشوء هو التناقض داخل النظرية اللسانية. إذن يستطيع المرء أن يلاحظ واقعتين أساسيتين. الأولى، هي أن نظريات لسانية محددة تقدم نفسها بوصفها مستقلة أيديولوجيا ً و لكنها مع ذلك معتمدة على ما أسميه فلسفة ضمنية implicit philosophy ( لوريندوa1986: 8-22؛ و يناقش كراولي في الفصل الثاني المهاد الوضعي للسانيات التزامنية). و حتى الافتقار التام إلى الإطار النظري نفسه هو فلسفة ضمنية، ربما أنه ليس الأفضل[3] ( قارن النظرية الاجتماعية كما قدمتها كاميرون في الفصل الرابع). ثانيا ً، تقدم بعض النظريات المحددة نفسها بوصفها ملحقة كليا ً بنظام فلسفي و مع ذلك فهي أصيلة و مستقلة على نحو راسخ. و هذه في الغالب هي الحالة التي أدعوها بالاستراتيجيات المدرسية لوريندو a1986: 763) التي تكون وظيفية أو توليدية على السطح، و لكن الأمر مختلف تماما ً في الدراسة نفسها. و المسألة التي ينبغي أن تكون حاضرة في أذهاننا هي أن النظرية اللسانية تميل دائما ً إلى نفي ميراثها و نفسها. و آلية هذا النفي هي المفتاح الذي يأخذ بنا إلى مصدر النشوء.
في المستوى الثاني، يمكن أن تكون مجموعة التناقضات التي ينبغي البحث عنها هي تلك التي بين المؤسسات اللسانية كما تنعكس بوساطة ’ التناقضات النظرية‘. و المثال الجيد على مثل هذا البحث هو عمل كوست Coste (1987). في هذه الدراسة، يصف المؤلف النشوء الحالي لبنية تعليم الفرنسية بوصفها لغة أجنبية( و هو المتصل بجهاز الدولة الفرنسية) و النشوء الأقدم للسانيات( و هو المتصل بالجامعة الفرنسية). و هو أيضا ً يحلل من وجهة نظر اجتماعية- تاريخية صراع المدافعين عن الطرفين بين 1945 و 1975. هذه المرحلة قد اعتبرت لحظة تغيير مهم و قوي في دراسة و تعليم اللغة الفرنسية في فرنسا. بالنسبة للغة الفرنسية بوصفها لغة أجنبية، يتكلم كوست حول النشوء، بينما بالنسبة للسانيات الجامعية، يتكلم حول ’تغييرات عريضة‘. هنا يظهر تناقض معقد بين المداخل المختلفة.
اللسانيات التطبيقية يفسرها الكاتب على أنها منطقة للتماس و الانتقال، على أنها نوع من ’السطح البيني المضطرب‘ بين كيانين، و هذان الكيانان نفساهما مضطربان. و يوضح كوست بأن هذا يمكن أن يعطي دفعة لمحاولات التثبيت التي يمكن أن تفسر بوصفها رغبات لأخذ زمام السيطرة لكنها لن تكون ناجحة على الإطلاق. و حينئذ نؤخذ ببطء من الجانب النظري إلى الصراع الاجتماعي. إن للفرنسية بوصفها لغة أجنبية و اللسانيات وحدات داخلية متباينة. و دائما ً، استنادا ً إلى كوست تبدوا مجموعة المتخصصين في الفرنسية بوصفها لغة أجنبية تقريبا ً مثل مجموعة تلفزيون مشوشة، فهي مادة وسطية و ذات إثباتات آنية، مثل مجموعة المديرين. و تختلف الاهتمامات و التوجيهات بشكل واسع بين المجموعات الثانوية. و أيضا ً، في حالة اللسانيين الجامعيين، فإن تصنيفاتهم الأقل شمولية إلى حد ما( التي تميـِّز، مثلا ً، بين ’ المختصين بالفرنسية‘ و ’ المختصين باللغة الأجنبية‘، و بين المختصين باللغات ’الهندية الأوروبية‘، و ’ الوظيفيين‘) تكشف عن تنوع أكبر حول كيفية إدراك و فهم العلاقة بين اللسانيات و تعليم اللغات و ممارستها ( من BUSCILA 1988: 44-5).
و هناك نتائج منهجية متباينة لما ذكره كوست 1987. و التناقض الأكبر يوصف هنا على أنه مجموعة تناقضات أصغر، و يبدو الاستيعاب الأكثر شمولا ً لهذا النظام المعقـَّد بوصفه الخطوة الأولى المؤدية إلى مصدر اجتماعي تاريخي sociohistorical للنشوء. و يمكن الاقتباس من تشيرفيل بوصفه مثالا ً صادقا ً لما أعنيه بمصطلح النقد الجدلي dialectical critiqu. و كوست هو مثال طيب لما أسمَّيه بالتأويل المادي materialistic hermeneutics.
لقد بدأنا بالتناقضات الداخلية للنظرية، ثم التناقضات بين المجموعات الاجتماعية الممثـَلة بوساطة مناصريها و مناهجهم النظرية. و هذا يؤدي بنا إلى التناقضات بين النظرية اللسانية و الواقع التاريخي، كما يتجسد في عمل جوكو Jucquois (1989) في دراسته لمدرسة المقارنة comparativism.
يقول جوكو أن نشوء مدرسة المقارنة لا يمكن أن يحصل دون الإمكانية التاريخية للمقارنة، و لكن نظرية المقارنة ستتلاشى في نهاية المطاف حتى و إن استمرت هذه الإمكانيات في النمو. و من أجل أن يوضح فهم المقارنة اللسانية، يقترح الحاجة إلى البحث الواسع و العام لأنماط تجسد الموقف و العقلية المقارنين. و يلاحظ بعد ذلك أنهما ’ قد ظهرا تدريجيا ً تماما ً‘ في تاريخ العالم الغربي و تطورا فقط خلال الأزمنة الحديثة. و هو أيضا ً يضع في الاعتبار أن الحفريات في الاتجاه المقارن تكشف عن الشروط التي أدت إلى ظهورها و تطورها. و هو يدافع بأن هذه الشروط ترتبط ارتباطا ً وثيقا ً مع إدراك و استعمال اللغة في مجتمع بعينه، أعني في ’ديمقراطية‘ ( كذا، و ربما من الأفضل أن أقول ’ إمبريالية‘) فهي بالضرورة تتضمن إدراك شيء ما من نزعة جماعية غير قابلة للتخفيض التي هي نفسها ترتبط بطبيعة اللغة ذاتها و بالواقع الاجتماعي المعاصـر( من BUSCILA 1988: 49). و العناصـر المنهجية الأخيـرة التي أريد أن أذكرها هي إذن قد جرى تقديمها: السياق الفكري العام و مهاده الاجتماعي- التاريخي.
و لاختصار الإطار المنهجي الناتج من الفرضيات النظرية و أمثلة الدراسات التاريخية التي نوقشت تواً، أفترض النقاط الست الآتية في عملية التأريخ لنشوء ’النظرية‘ اللسانية:
(i) النقد الجدلي الداخلي I: المدخل غير المهتم بتدوين التاريخ إلى التناقضات النظرية الداخلية.
وصف ’صراع الأفكار‘ كما لوحظ داخل النظرية، البحث عن حركات التناقضات، و التغييرات، و النزعة الانتقائية،...الخ.
(ii) التأويل المادي I: المدخل غير التاريخاني إلى سياق النظرية الخارجي المباشر.
وصف يتضمن ’ من هو‘ لهذه النظرية. المدارس و الباحثين، العناصر الببليوغرافية،...الخ. تأويل المعلومات ’ضئيلة القيمة‘.
(iii) النقد الجدلي الداخلي II: وصف الأبعاد التفنيدية/ المدرسية و التوثيقية/ الرمزية. وصف ما يكشفه ’صراع الأفكار‘ في النظرية حول علاقاتها مع النظريات الأخرى. أي الأفكار (الأشخاص) في اتفاق أو تعارض مع ماذا أو من. من ( ماذا) يمكن اعتباره مقدما ً لمعلومات موثـقة ملموسة جيدة؛ و من (ماذا) يفسر و كيف.
(iv) التأويل المادي II: وصف الأفق الاجتماعي-الفكري.
وصف الأفق الأيديولوجي- العلمي للمرحلة التي نشأت فيها النظرية و تأثيرها على المدرسة التي تدافع عنها.
((V النقد الجدلي الداخلي III: تعيين الحدود الفكرية للنشوء.
وصف ما تتكلم النظرية حوله، و ماذا تخفي، و ماذا تنسى، و ما لا يمكنها أن تعرفه
مطلقا ً، ما تعرضه و ما تتكلم حوله لأننا ’ينبغي‘ أن نتكلم حوله. ما الذي كان قبل أن
أن تعطي( أو لا تعطي) تصوراتها. ما الذي سيأتي بعد ذلك مما سيكون( أو لا
يكون) لها تأثير عليه.
(VI) التأويل المادي III: عملية التأريخ.
على أساس من هذه المعطيات، وصف إمكانية/ ضرورة نشوء تلك النظرية بعينها، استنادا ً إلى وسائل و حدود اجتماعية تاريخية للمرحلة التاريخية موضع الدراسة.
في الختام، نستطيع القول بأن هناك نوعان من التاريخ: تاريخ الأفعال و تاريخ الصيرورات. و نشوء نظرية لسانية جديدة هو دائما ً ثمرة الأفعال و الصيرورات في المجتمع. و نحن لا نستطيع أن ننجز العمل التاريخي كله، و بوصفنا مؤرخين لعلوم اللغة، فنحن مجبرون على التركيز على النشوء، و مصادره، و آفاقه ، و حدوده. و إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن ما ندرسه هو ظاهرة جزئية فقط، مجرد جزء من المشكلة، سنرجع بالطبع إلى الخلف إلى إشكاليتنا الابتدائية: الواقع الجدلي لمسألة الاعتماد/ الاستقلال للسانيات و التاريخ. و سنبدأ حينئذ ٍ في فهم بأن التاريخ و اللسانيات بطيئان للغاية في تقديم ’ نتائج‘، و عملنا يمكن أن يكون فقط ...أبطأ.
ملاحظات المؤلف
1. قـُدِمَ هذا النص في كانون الأول 1988 في ملتقى NAAHoLS في جامعة تولين، نيو أورليانز. و أود أن أشكر السادة المذكورة أسماؤهم لمساعدتهم الثمينة: كارين والين ، ديفد ووكر و موريس بينشار من جامعة يورك، و لودميلا بوفيه من جامعة لافال، و جورج وولف من جامعة تولين، وأجنيس ليبو. و أود أن أقدم شكرا ً خاصا ً إلى تالبوت تايلور الذي قدم نقدا ً في الصميم من هذا العمل و ساعدني في تحوله إلى شيء يمكن أن يكون في متناول القراء الأنجلو- أمريكان.
2. في العام 1902، أوضح الأب أي. توجارد، في مقدمته لعمل مِّـيز( 1903) بأن مؤلف هذا المسرد كان يعمل عند حلول العام 1899 على مقالة عنوانها تاريخ المحرار. و استنادا ً إلى فقرة من رسالة مقتبسة في كتاب مـِّيز ( 1903: X-XI) فإن الهدف الرئيسي للمؤرخ، في الجزء الأول من هذا ’ التاريخ‘ للمحرار، كان أن يدحض مناقشات شخص ما من كابري زعم بأن غاليليو كان هو من اخترع المحرار. وقد عدَّ مَّـيز أن المخترع الحقيقي لهذه الأداة هو الطبيب سانتوريو من فينيسيا ( 1561-1636)، و للبرهنة على ذلك، يبدو أنه قد قام بعمل دراسة تأويلية معقدة جدا ً للمجلدات السبعة عشر من أعمال غاليليو. و من المهم ملاحظة أن ، و على الرغم من تحقيق نوع معين من ’ نزع الميثولوجيا‘ عن رمز تاريخي، فإن مثل هذا البحث يبدو شبيها ً أكثر بإقامة الدعوى حول عائدية التأليف منه إلى دراسة التاريخ. و من المهم أيضا ً أن نلاحظ بأن معرفة النشوء التاريخي لمنتج تقني مثـل المحرار في عصر النهضة الإيطالية لن تتغير جوهريا ً إذا ما عرفنا بأن الاسم الدقيق لمخترعه هو سانتوريو بدلا ً من غاليليو. هذا كان في القرن التاسع عشر، و لكن هل مؤرخو اللسانيات يعملون الأشياء على نحو مختلف جدا ً الآن؟
3. يصف تشيرفيل فعالية أستاذ المدرسة الفرنسية في القرن التاسع عشر على النحو الآتي: ( لم يكن النحو [ في القرن التاسع عشر] بالنسبة للمعلم شيئا ً أكثر من إجراء تربوي. و على هذه الصورة فهو دائما ً مستعد لتغيير نحوه إذا ما أقترح شخص ما طريقة أكثر كفاءة. و حتى أنه كان قادرا ً، إذا كان يمتلك قدرا ً من المخيلة، على إجراء بعض التغييرات و إعادة كتابة نحوه، أولا، ً للاستعمال الشخصي، مالئا ً دفاتر الملاحظات بكتابته الإردوازية اللطيفة. و هناك يمكن أن تتحقق كل شكوكه، و كل مخاوفه، و كل مكتشفاته التربوية. و إذا ما كان شخصا ً لديه قدر يسير من الطموح و رغب في التقديم لمنصب أستاذ في Ecole normale أو لمنصب مفتش التعليم، فربما يتمكن من طبعها و الإلحاح على الموظفين الأعلى منه مرتبة لتضمينه بين الكتب الوجيزة التي منحت تزكية سمة الحجة العلمية من قبل القسم.
و من الواضح أن دوافعه ليست من النوع التأملي، بما أن الاهتمام الأساسي للمعلم هو بالدرجة الأولى و لأقصى ما يمكن أن يتعلم طلابه الإملاء. إذا أنه على هذا يعتمد احتفاظه بمركزه الوظيفي، إذا كان في خدمة جماعة قروية، أو بارتقائه الوظيفي... .
إن دور الطلبة جوهري في هذه المواجهة التربوية أو الصراع الذي يقوم فيه المعلم بجعلهم يماثلون في كتابتهم المبادئ الأساسية للإملاء التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى التأسيس البطيء للنحو المدرسي الجديد. بعضهم يرى هذا بوضوح، مثل فانيير Vanier الذي كتب في مقدمة كتابه النحو العملي للمدارس الابتدائية: ’ هذا الكتاب الصغير هو ليس نتيجة ليال ٍ من العمل، و لا هو حصيلة تأمل واسع؛ إنه كان من إيحاء طلبتي...‘).
( تشيرفيل 1981: 97)
ملاحظات المترجم:
1. في تقديري إن تفسير الكاتب لمصطلح gnoseology بنظرية المعرفة هو تفسير غير موفق لأن ما يقابل مصطلح نظرية المعرفة في الإنجليزية هو epistemology. و لكنه قد استخدم المصطلح في سياق الدراسة للإشارة إلى المعرفة الحدسية أو العرفانية استخداما ً يوافق حاجة الحالة موضوع البحث.
2. يعدُّ القرن التاسع عشر قرن التاريخ و الأيديولوجيا، و لذلك فإن ظهور العامل التاريخي بوصفه عاملا ً مؤثرا ً في دراسة العلوم الإنسانية تحديدا ً قد صار ملحوظا ً ابتداء ً من هذه المرحلة التاريخية.
3. لأن اختيار عدم التنويه أو عدم تحديد الإطار النظري هو بالضرورة ذو بعد فكري و أيديولوجي بالضرورة و بالتالي فهو بعد فلسفي أيضا ً.
بول لوريندو
Paul Laurendeau
ترجمة: باقر جاسم محمد
باقر جاسم محمد
الحوار المتمدن - العدد: 1831 - 2007 / 2 / 19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع Bookmark and Share
كيف تأتي الحداثة إلى العالم؟ كيف تولد؟ و من أية انصهارات و تحولات و اتحادات تـُصنع؟ كيف تعيش، صارمة ً و خطرة ً كما هي؟
ألم يحن الوقت بعد للتوقف عن النظر إلى اللسانيات بوصفها حلا ً لمشكلة الصفة العلمية scientificity للعلوم الإنسانية؟1 فقـد تكـون اللسانيات جـزءا ً مـن المشكلة أكثر من كونها حلا ً. و لكن أي نوع من المشكلات هي؟ يمكننا أن نوضح هذا من خلال مثال قصير. نحن قد عدنا إلى الخلف إلى العام 1615 في شمال- شرق قارة أمريكا الشمالية الهائلة و هنا كان هناك جوال غابات قد قرر مغادرة منطقته الريفية الفرنسية غير الخصبة للعيش في غابة فرنسا الجديدة من أجل المتاجرة بالفراء. و قد تم أخذ كل شيء بالحسبان، فجوال الغابات غير المتعلم هذا، و بدون مفردات، أو نحو أو حتى أبجدية لتوجيهه، سوف يتعلم في وقت قصير نسبيا ً لغة الأمم الهندية التي يتاجر معها.
ما هو نوع ’ الإطار النظري‘ الذي استثمره للحصول على مثل هذه النتائج المباشرة في اكتساب لغة ليست هندية- أوروبية و هي مجهولة تماما ً[ بالنسبة لـه. المترجم]؟ و بوساطة أي نوع من الميتالغة metalanguage قد أدرك المشكلات اللسانية التي واجهها، و قبل أقل بقليل من نصف قرن من طبع كتاب جماعة بورت- رويال النحو العام و المنطق، تلك الدراسة ذات اللغة الفرنسية الواحدة التي لم يكن بمقدور شخص في مثل حالته أن يتمكن – أو أن يسمح لـه – بقراءتها؟ و حين يحدث ذلك في وقت لم تزل فيه اللسانيات غير متخيلة و غير مفهومة بعد، فإن هذه الأحداث تؤدي إلى الاستنتاج بأن هنالك مشكلة واقعية تماما ً فيما يخص المكانة العلمية لهذا الحقل العلمي.
إن ’المفاهيم‘ الأساسية التي استعملها هذا الرجل لفهم اللغة الأجنبية يمكن أن تـُعَـدَّ حاليا ً أيديولوجية؛ و لكن الواقع هي أن ممارسته مكنته من أن يعرف تماما ً لغة هندية لا يعرفها في أيامنا هذه كثير من المختصين الممتازين بأصول الأعراق. و على هذا النحو نصل إلى محور المشكلة الحاسمة للمعرفة الحدسية gnoseology ( نظرية المعرفة theory of knowledge) [1]
تقصر هذه الواقعة البسيطة المسافة بين أيديولوجيتي المعرفة الحدسية الرئيسيتين و تدمجهما معا ً: الطرائق العلمية المعتمدة من العلماء scienticism (’ لم نعرف آنذاك و لكننا نعرف الآن. اليوم قد وجدنا نهاية المعرفة و نهاية التاريخ‘ – و مع ذلك و في الحقيقة ، قد عرف جوال الغابات آنذاك شيئا ً ما)؛ و اللا أدريه agnostiscism (’ لن نعرف قط في كل الأحوال. و قد وجدنا بأن المعرفة و التاريخ همـا متصل أبـدي eternal continuum دون أية خـطوة أو فـجوة‘ – بينـما في الحقيقة، قـد عرف جوال الغابات حقا ً شيئا ً ما). و من المهم أن نفهم العلاقة الحميمة بين أيديولوجيات المعرفة الحدسية و تلك التي تخص التاريخ. فليس من الممكن الفصل بينهما. و بذلك فإن الطرائق العلمية هي نظرية ضد- تاريخانية anti-historicist للغائية التاريخية historical finalism. و هـذا يعني أن هؤلاء الذين اعتقـدوا بالسلطة النهائية للعلم قد اعتقدوا أيضا ً أن الواقع التاريخي لم و لا يجب أن يتغير جذريا ً الآن. و اللا أدريه هي نظرية مع- تاريخانيـة pro-historicist للجبريـة التاريخيـة historical fatalism. إنهـا الاعتقـاد بـأن ’ الأشياء تتغير دائما ً‘ و بأنه ’ سيظهر دائما ً شخص ما مع فكرة جديد‘. إن تعقيد الواقع ينبهنا إلى رفضهما كليهما معا ً.
و النظرية المقترحة هنا بالنسبة لمسألة المعرفة الحدسية هي من نوع المادية الجدلية(’ قريبا ً نعرف أكثر، و ما يجب معرفته ليس له من نهاية‘). و هذه الفرضية هي في آن واحد ضد- علمية و ضد- لا أدريه. و نتائجها جدلية. و القضايا التاريخية هي هنا حاسمة أيضا ً: فما ندعوه معرفة هو في آن واحد ’صادق‘ من وجهة النظر الممارسة التاريخية المحلية التي تنتجه و تحتاجه، و ’زائف‘ من وجهة نظر نظام المعرفة الناتج من فترة تاريخية لاحقة و أعلى تقدما ً [ أي أنه يتصف بالنسبية. المترجم]. هنالك انصهار و صراع جدلي ( و توتر) ل ’لأيديولوجيا‘ و ’العلم‘ في المعرفة knowledge الخاصة بفترة زمنية معينة . و نعني بكلمة علم معرفة لها صلة بواقع معين أنتجتها ممارسة جابهت هذا الواقع. و نعني بالأيديولوجيا وعي منعكس للواقع. مثلا ً: مقولة أن ’ الشمس هي مركز الكون‘ يمكن أن تـُدعى هذه الأيام نظرية أيديولوجية ، على الرغم من أنها لم تكن كذلك عندما قيلت للناس الذين يعتقدون بأن الأرض كانت هي مركز الكون. إن جوال الغابات و الهنود قد تاجرا معا ً. و ممارستهما أنتجت معرفة علمية. و قد ’اشتغلت‘ تلك المعرفة، فتمكنوا من التحدث. و حتى إذا ظلوا عند مستوى التقنية البسيطة، فإن علم اللغة مهتم كليا ً بالنتيجة التي حصلوا عليها. أفرض أنه، و في زمان محدد، كان ما تحدثا به هو نوع من اللغة المشتركـة lingua franca ، و أفرض أيضا ً بأنه، و في تلك اللحظـة، سألهم أحـد الأشخاص عن ماهية اللغـة التي استعملاها حينما تاجرا مع بعضهما. فإن من الممكن، كما يقرر ذلك المختصون بالرطانات و مزيج اللغات المحلية و الأجنبية pidgin and creole التي تستخدم في البلاد المستعمرة و في الموانئ ، أن كلا ً منهما سيكون معتقدا ً أنه هو الذي تعلم لغة الآخر. و عندها سيظهر التوتر( الانصهار و الصراع) بين الأيديولوجيا و العلم. إنهما يعرفان كيف يتصل بعضهما بالبعض الآخر و سيحاولان بكل ما يستطيعان أن يوضحا هذه المعرفة. و حتى عندما تكون تفسيراتهما حول قدراتهما الاتصالية مغلوطة فإن ممارستهما تنتج معرفة ’تقنية‘ واقعية. و المعرفة الحدسية ذات الصلة تعِـدُّ مثل هذا التوتر بين الأيديولوجيا و العلم في المعرفة بوصفه ثمرة التغير التاريخي. و أيضا ً فأنه ليس هنالك من نظام من البديهيات القبلية بالنسبة للمعرفة الحدسية نفسها: و التاريخ يعيد إنتاجها و يغيرها بثبات أيضا ً.
و هذا يجعلنا نواجه مشكلة تاريخ اللسانيات. بما أن اللسانيات( مثل أي علم آخر) ليست حقلا ً يطفو بحرية دون رابطة ما، فهناك علاقة قريبة بين التوتر الجدلي للأيديولوجيا/ العلم في محتواه و في تاريخانية نشوئه. و كما صاغ تايلور هذه المسألة في الفصل الأول، فإن طاقة مذهلة قد صُرفت، في اللسانيات الحديثة، لنزع العمل من سياقه و ’تجريده من تاريخه‘ ahistoricizing. و هذا الأمر لم يكن قط عملا ً بريئا ً. و غرضي هنا هو أن أحارب هذا الاتجاه بفرضيات من أجل مدخل مادي تاريخي إلى تاريخ اللسانيات. و الأمر الأبعد من النتائج المحددة، هو ما أقترحه من إطار نظري و منهجي يمكن أن يسمح بمدخل جديد إلى المشكلات المتعلقة بتاريخ اللغة.
توجد طريقتان رئيسيتان لكتابة تاريخ حقـل معرفي فكري ما an intellectual discipline. الأولى هي التدوين التأريخي histeriography : و هي التسلسل الزمني للأحداث الفكرية كما لو كانت تنطوي على استقلال عن السياق التاريخي histeriosity و النتيجة هي قلب التاريخ inversion of history. أما الثانيـة فهي الطريقة التاريخانية historicism: و هي تمثل ردَّ فعل على الأولى، و تضع كل حادث عقلي في علاقة مباشرة مع ما يمكن أن يُـسمَّى بسياقه ’الحكائي- التاريخي‘. و النتيجة هي إعطاء صورة مصغرة عن التاريخ.
من الممكن إقامة علاقة بين التدوين التاريخي و العلموية scienticism : و سيكون مطلوبا ً منا بعد ذلك أن نصبح شهودا ً لما يُـسمَّى الحركة التاريخية لعلم يطفو حرا ً . و من الممكن أيضا ً إقامة علاقة بين التاريخانية و اللا أدريه: و نكون بعد ذلك شهودا ً لتاريخ حبكات شحيحة لحقل مؤسسي ليس له من معرفة موضوعية حقيقية أو معلومات يمكن أن يجهزنا بها.
و يترتب على ذلك، أن ثروة أو ميراث مؤرخ اللسانيات في أيامنا يتأرجح بين تنويع من العلموية و تـنويع من اللا أدريه. دعنا ننظر في بعض الأمثلة.
الحالة التي تمثل ما أسميه التدوين التاريخي (التسلسل الزمني للأحداث العقلية كما لو كانت تنطوي على استقلال عن السياق التاريخي) هي على النحو الآتي:
( استنادا ً إلى تعاليم سوسور فإن مثيري قضايا الصوتيات الوظيفية يمكنهم التعويل في تأسيس نظريتهم – فقد هيأت، في الواقع، ثنائية اللغة / الكلام الأرضية ... و الأكثر من ذلك، على الجزم بأن ’ في اللغة، هنالك فقط الاختلافات‘: فكل الصوتيات الوظيفية، التي يكون العنصر الأول فيها هو خصيصة الاختلاف، هي هنالك موجودة في حالة جنينية.)
( ليروي 1970: 80- 1)
هنا، أحد المفاهيم هو ’ هيأت الأرضية‘ لظهور آخر: نحن في عالم الطواف الحر للتغير العلمي. و حين أقول بأن نتيجة مثل هذا التقديم هي قلب التاريخ، أعني أن سلوك الممثلين الاجتماعيين يبدو كما لو أنه قد أعطي مرتبة ثانوية بالنسبة لمصير الأفكار التي يشتركون فيها. فتقديم ’المدارس‘ اللسانية المتتابعة زمنيا ًهو ليس بغير شبيه [ أي أنه يشبه. المترجم] صور الانحطاط المؤقت التي ترينا الخطوات الرئيسية لتفتح زهرة فكرية.
إن المعارضة بين ثنائيتي التدوين التاريخي / التاريخانية هي ما يمكن أن ندعوه ’ الثنائية النظرية‘. و الثنائيات النظرية هي، في التحليل الجدلي للواقع، ليست متعارضة جذريا ً. فالعلاقة بين التدوين التاريخي و التاريخانية هي في حقيقة الأمر أكثر تعقيدا ً: فالتوتر بين هذين المصطلحين يؤدي ببطء إلى مصطلح ثالث. واقعيا ً فإن خطابا ً مثل المقتبس أعلاه، سواء أكان ذلك قصديا ً أم لا، يعمد إلى اختيار متحيز للواقع الذي يصفه. و لكن التضاد الجدلي لما تمت رؤيته( أو لنقل ما تم نسيانه أو إخفاؤه أو كان غير معروف) لا يمكن أن يُـفرغ تماما ً. و هذا يعني بأننا، كما هي الحالة في أي واقع جدلي، سنلاحظ في التدوين التاريخي، بوصفه افتراضا ً أيديولوجيا ً للمؤرخ، حضور نقيضه ( التاريخانية). في الواقع أننا نرى هنا أيضا ً ’الذين متعهدي الصوتيات الوظيفية‘ يقرؤون بعناية سوسور بحثا ً عن مناقشات تسند نظرياتهم الجديدة. و تظهر أيضا ً آثار من المادية التاريخية: نحن بطريقة ما نتمكن من فهم أن المختصين بالصوتيات الوظيفية هم بمعنى ما يحاولون إخفاء واقعة أن نظريتهم تنشأ من مكان ما غير الفكر ( البنيوي).
في الأوصاف مثل تلك التي ستذكر لاحقا ً لدينا ما أسميه التاريخانية، و هي ردة فعل على الموقف الأول الذي يضع كل حادث عقلي في علاقة مباشرة مع ما يمكن أن يُـسمَّى بسياقه ’الحكائي- التاريخي‘.
( على الرغم من أن سيشيهاي Sechehaye و بالي Bally قد أكدا على شكلانية سوسور في [ طبعتهم] لمحاضرات في اللسانيات العامة فإن ميليه Meillet و هو أحد الواقعيين من الجمهورية الثالثة، قد وجد أن الشكلانية غير مقبولة.) و قد هيمن ميليه على اللسانيات في الجامعات الفرنسية حتى وفاته في 1936. و مصير غييوم كان مثالا ً على تلك الهيمنة. فلم يكن بالإمكان تعيين أي أحد بصفة لساني بدون مصادقة ميليه. فما أن يتكلم ميليه، حتى يتبعه الجميع.
( الفارس و المحبرة 1984: 61-2)
نحن هنا في عالم عملي شحيح لوسيلة التحايل و التأسيس. و شخصية الرجل في موقع السلطة تبدو مركزة و متطرفة, توضح ما كانت اللسانيات و ما لم تكنه في مرحلة معينة. عندما أقول ذلك فإن نتيجة مثـل هذا التقديـم هي تخفيـض التاريخ، أعني أنه يظهر الفاعلون الاجتماعيون الآن( و قد جرى عموما ً تخفيضهم إلى ’ شخصيات قوية‘) كما لو أنهم يمتلكون سيطرة كاملة على الأفكار التي ينتجونها. و المؤرخ هنا يعيد إنتاج عالم شبيه بعالم الرسوم المتحركة، مبسطا ً الوقائع الاجتماعية إلى سلوك الشخصية الكارتونية. و هنا أيضا ً، نلاحظ في وضع المؤرخ الأيديولوجي حضور نقيضه – التدوين التاريخي. إن الصراع بين ’فكرة‘ الشكلانية و ’فكرة‘ التجريبية أو ’الواقعية‘ ما زالت قائمة هناك، و هي، فيما يبدو، ’ مُـفسَـرة‘ من خلال إرادة الأقوى. أخيرا ً تظهر أيضا ً آثار من المادية التاريخية. و قد يعتـقد بعض القراء أن كل هذا المشهد الهزلي هو ’ في أسلوب الجمهورية الثالثة‘ – و هذا يعني، أنه نتاج منظمة السلطة بالغة الخصوصية و الغرابة في تلك الفترة من تاريخ بلد أوروبي.
يبدو إن التدوين التاريخي، و التاريخانية و في بعض الأحيان مزيج من كليهما هو الإرث النظري الرئيسي لمؤرخ اللسانيات في الوقت الراهن. و لكنه الوقت المناسب الآن لإبعاد أنفسنا عن هذا النوع من التناقض الدوري البندولي لمدخلين غير المكتملين اللذين لم يستطيعا أن يفهما على نحو صائب المسألة الحاسمة التي يسميها كراولي( الفصل الثاني) بالعوامل الخارجية، و هي ما سأدعوه بالتاريخانية.
لفهم أهداف ( أو واجبات) تاريخ اللسانيات كما نقترحها، إنه في المرتبة الأولى من حيث تضمنه كل الأهمية في تفسير ما نعنيه بمصطلحات التاريخ و علم التاريخ. فالتاريخ هو تطور البنيات و الصراعات الاجتماعية بوصفها واقع موضوعي، المستندة على التنظيم الملموس للإنتاج المادي. و علم التاريخ هو العلم الذي يدرس البنيات و الصراعات الاجتماعية بوصفها واقع موضوعي، المستندة على التنظيم الملموس للإنتاج المادي. و علم التاريخ غالبا ً ما يسمَّى خطأ ب’التاريخ‘ كما لو كان ذلك إشهار محاكمة. التاريخ هو الواقع المعقد الذي ننتجه و في الوقت نفسه نحاول أن ندرسه( من خلال علم التاريخ).
استنادا ً إلى ماركس ( الأيديولوجيا الألمانية؛ للإطلاع على الاقتباسات و المناقشة، أنظر لوريندو 1990: ملاحظة 2) ليس هنالك تاريخ للسياسة، و القانون، و العلم، و الدين و هلم جرا لأن أنماط الواقع هذه ( سواء أكان ذلك على نحو مباشر أم غير مباشر) هي أنماط نشوء لما عرفناه هنا على أنه تاريخ. و لفهم هذه النقطة المهمة بوضوح، نحتاج فقط للتفكير في الأدوات tools. بما أن المحرار، مثلا ً، ليس بكائن حي، فهل سيكون ’ تاريخ المحرار‘2 دراسة جادة بدون الإشارة إلى النظام الاجتماعي الذي ينتج و يحتاج هذه الأداة المحددة و الذي يُـحَسِّـن و يلاحق دون انقطاع عملية تحسين كل أنماط التكنولوجيا؟ هل يمكننا أن نتحدث جديا ً عن محرار صناعي ما دون التكلم عن إيجاد الجواب للمسألة التي هو منغمس فيها، و عن العامل workerالذي يسعى لإيجاد الحل هذا، و المصنع الذي ينتجه؟ ما هي الفائدة من تدوين ’شلال‘ من التسلسل الزمني للمحارير عبر القرون، أو الوصف التام لحالات الفهم و عدم الفهم للأفراد البارزين الذين منحوا المحارير شكلها في سياق تطور العالم؟ و ما هو عنصر اهتمام ’ تاريخ‘ المحرار ما لم يكن عملية التأريخ historization لهذه الأداة؟ و نستطيع تطبيق المناقشة نفسها على مؤسسات و نظريات أكثر تعقيدا ً – و ، بالطبع، اللسانيات.
لأن المعرفة شيء أكثر تعقيدا ً من أداة بسيطة، يجب أن نشتغل ضمن إطار ذي بعد تاريخي مثير للجدل يعكس الفرضيات التي جرى تقديمها في أعلاه حول مسألة المعرفة الحدسية. و المثير للجدل يمكن صوغه على النحو الآتي: ينبغي علينا أن ندرس مشكلة حقل معرفي فكري ليس لـه قط استقلال عن التاريخ و حركته صعودا ً و نزولا ً، و هذا ما يمكن أن يجعلنا نقترب شيئا ً فشيئا ً من معرفة علمية صادقة للواقع. إن هدف مؤرخ علم اللغة هو أن يجعل هذه العبارة ’ شيئا ً فشيئا ً) واضحة – أعني، أن يركز الانتباه على العلاقة الجدلية المعقدة بين عدم الاستقلال و الاستقلال هذا.
و لتلخيص ما سبق، فإن تاريخ اللسانيات لا ينبغي أن يكون تدوينا ً تاريخيا ً و لا تاريخانية، و لكن عملية تأريخ لهذا الحقل المعرفي العقلي. و هذا يتضمن فرضيات نظرية معينة حول التاريخ. و تزودنا المادية التاريخية بالإطار العام ل’ نظرية النشوء‘. و ترى هذه النظرية في كل مدرسة لسانية نتاجا ً غير مباشر و مستقل نسبيا ً عن السياقات الاجتماعية- التاريخية، و تسعى إلى وصف نشوء المدرسة اللسانية، منطلقة من الخلف من نتائجها الراسخة نحو الخليط الكامل لمصادرها النظرية و المادية.
كل أنماط التمثيل العقلي( الأيديولوجيا، و النظرية، و العلم) هي، من وجهة نظر تاريخية، نشوء ينبثق مـن التاريخ – مـن الشروط المحددة للممارسة في مجتمع محدد. و الظاهرة، بوصفها نشوءا ً، تتضح في سياق ’محدد سلفا ً‘. و يمكننا تخيلها بوصفها انبثاقا ً لسائل أو ظهورا ً لموجة، واضعين في حسباننا أن هذا هو مجرد تمثيل مفيد و ليس عملية تحويل مادي لمشكلتنا بالغة التعقيد. أنه يتبنى توسيعا ً، و ينبغي دراسة كثافة هذا التوسيع و حدوده. و كلما كان هذا التوسيع عريضا ً أكثر ، كان هذا النشوء أكثر قدرة على الذوبان في محيطه و الامتزاج معه( أنظر كاميرون في الفصل 4 حول نشوء اللسانيات الاجتماعية و توسعها).
و بوصفها نشوءا ً أو ظهورا ً، فإن الظاهرة العقلية لها كذلك مصدر أو مجموعة مصادر هي التي يجب أن نعثر عليها. و لكن الظاهرة تظل قائمة، حتى و إن نضبت هذه المصادر، و بخاصة إذا ما كانت ترتبط بتناغم مع أنماط النشوء الجديدة الآتية من مصادر جديدة. هذه الترابطات يمكن لها أن تقودنا إلى الاعتقاد باستقلال أنماط النشوء. و كذلك المصادر المؤسسية الرئيسية للظاهرة يمكن لها أن تقودنا إلى الاعتقاد بتاريخانيتها.
إن كل نشوء هو دائما ً في تناقض contradiction مع أنماط النشوء الأخرى. و النشوء هو دائما النتاج الجمعي للأولئك الذين يصنعونه و للأولئك الذين يتقبلونه. و على هذا النحو ليس هناك شيء مباشر و ليس هناك شيء بسيط ( قدم كل من فرانسواز كاديه Francoise Gadet و مايكل بيشو Michael Pecheuxملاحظـات أوليـة مفيـدة حـول ظاهرة النشوء: أنظر لوريندو 1990).
ليس هناك من عمل قد أنجز في نظرية النشوء، و لكن بعض البحوث قريبة من أهدافه. فمثلا ً، يصـف تشيرفيل Chervel (1981) نـشوء النـحو المـدرسي الفـرنسي ( grammaire scolaire). و المصدر الأساس للنشوء هو الجهاز المدرسي. فهناك عدد من التناقضات التي يجري تحليلها: التناقض بين النحو التأملي للقرنين السابع عشر و الثامن عشر و تعليم القراءة (بخاصة الإملاء) في القرن التاسع عشر: التناقض بين ثبات و جمود ما يجري تعليمه و تطور اللغة الفرنسية. و تأخذ آثار هذه التناقضات في النحو المدرسي شكل نزعة انتقائية خاصة بها ( حول هذا المفهوم النظري أنظر لوريندو 1990) و هذه النزعة الانتقائية تعطينا مفتاحا ً مناسبا ً للطبيعة العملية للنشوء. و نراها بشكل واضح في وصف فعالية الأستاذ المدرسي في القرن التاسع عشر المزود بكتاب تشيرفيل3 . إن المفهوم الأيديولوجي( بمعنى المنعكس) للنحو المثالي idealistic النخبوي المفروض على الناس بوساطة إلزام تسلطي obligarchy قد جرى استبداله بوصف الحالة حيث تبدو الممارسة الجماعية و التدريجية لعملية تدريس / تعلم ’الفرنسية‘ ( يعني تهجئة محددة للفرنسية ، استنادا ً إلى الاعتقاد بأن الإملاء هو اللغة)[ تبدو] بوصفها القوة الموضوعية الحقيقية التي أنتجت النحو المدرسي.
إن طريقة تشيرفيل داخلية، مقارنة و تاريخية. إنه يعمل على رأسمال من أنماط النحو للقرنين التاسع عشر و العشرين و يصف تطور عدد محدود من الفئات النحوية. و تكشف ’أنماط النحو‘ المختلفة عن نفسها بوصفها نسخا ً متوالية لوصف غير مكتمل و متردد لواقع اللغة. و هذا ما يفهمه المؤرخ على أنه نقطة منهجية غاية في الأهمية: يبدأ التحليل الملموس في تاريخ اللسانيات من خلال تحليل خطاب اللسانيين أو النحاة.
إن استنتاجات تشيرفيل متشككة و مفندة: إذ بالنسبة له، ليس النحو المدرسي سوى أيديولوجية المطابقة التي أنزلت منزلة واقعية في تعليم الإملاء. و بمعونة الإطار النقدي الذي نمتلكه الآن، فنحن نعرف بأية طريقة ينبغي إكمال هذا التحليل. من الممكن القول إنه تحت أسطورة النحو لم تكن هناك معرفة على الإطلاق. كان هذا الإطار القمعي الضيق لعقود خلت الموضع الوحيد للتفكير ’النظري‘ حول اللغة الفرنسية. و ينبغي الآن كتابة مجلد ثان ٍ لتاريخ النحو المدرسي، يصف كيف، و من خلال التفنيد و الصراعات الاجتماعية، يمكن لنوع من المعرفة و العلم أن يصون نفسه تحت سلطة نزلاء النحو التقليدي.
إن هذه المشكلات المنهجية حاسمة على نحو مطلق و ليس هناك من قاعدة ذهبية فيما يخص هذه المسألة. و سأذكر بضعة عناصر منهجية من تلك التي يجب أن تبحث عنها نظرية النشوء في أعمال مؤرخي اللسانيات. و لأنني أعتقد بأن عملية التأريخ historization للسانيات لن تنجز بوساطة المؤرخين الذين يقدمون أنفسهم للسانيات و لكن الأصح بوساطة اللسانيين اللذين يقدمون أنفسهم لعلم التاريخ، أقترح أن نقطة البدء لمثل عملية التأريخ هذه هي البحث الجدلي في اللسانيات نفسها( أنظر لوريندو 1990). و لكونها محللة – في المرحلة الأولى – من وجهة نظر جدلية ( اقترح جولدمان 1959: 26-44 عناصر منهـج لمثل هذا التحليل؛ أنظر لوريندو 1986b)، تبدو اللسانيات بوصفها مسرحا ً للتناقضات النظرية و المنهجية التي ستكشف عن نفسها – في المرحلتين الثانية و الثالثة – بوصفها تحويلات معقدة للغاية للصراعات الأيديولوجية و المادية للمرحلة التاريخية ( أنظر، مثلا ً، استنتاجات تشيرفيل على النزعة الانتقائية للنحو المدرسي). و المثال الآخر هو نشوء التاريخ بوصفه عاملا ً معرفيا ً في عدد من الحقول المعرفية في القرن التاسع عشر مثل علوم الحياة و الاقتصاد السياسي و اللسانيات.[2] هنا ، توجد علاقة معقدة مع حوادث هذه الفترة، و بخاصة الفتوحات الاستعمارية و الثورات.
و فوق كل ذلك، سيكون المدخل إلى نصوص اللسانيات مهما ً جدا ً ( قارن جوزيف، الفصل الثالث). هنالك طريقتان في تناول نص ما. فلدينا مدخل ’الدرجة الأولى‘ ( حيث يميل النص إلى أن يؤخذ بذاته أو بما يتكلم حوله) و مدخل ’الدرجة الثانية‘ (حيث يميل النص إلى أن يؤخذ على أنه تأمل لشيء آخر أو شيء أكبر منه نفسه أو ما يتكلم حوله).
في مدخل ’الدرجة الأولى‘ نلاحظ أيضا ً موقفين. الأول إما أن يكون مدرسيا ً scholastic أو تفنيدي polemic. و نأخذ في الحسبان مضمون النص على أنه حقيقة تامة( أو على أنه شيء يمكن التعامل معه على أنه حقيقة) و نحاول أن نحترمه ( أو في الأقل أن نظهر بأننا نحترمه)، أو نأخذ في الحسبان مضمون النص على أنه زائف تماما ً (أو على أنه شيء يمكن التعامل معه على أنه زائف تماما ً) و نحاول رفضه (أو في الأقل أن نظهر بأننا نرفضه). و هذا الزوج الدوري يُـقارن بموقف ثان ٍ: هو الموقف النقدي.
في مدخل ’الدرجة الثانية‘ نلاحظ أيضا ً موقفين. الأول إما أن يكون توثيقيا ً أو رمزيا ً. و نعامل النص على أنه مصدر للمعلومات: ليس من النوع المباشر، كما لو كان نوعا ً من صحيفة صباحية، و لكن من النوع غير المباشر و تقريبا ً غير المقصود( و نتعامل معه كما لو أنه صحيفة صادرة في العام 1850، مزودا ً إيانا بالكثير من المعلومات التفصيلية حول كيفية عيش الناس في ذلك الوقت)، أو نتعامل مع النص بوصفه نظاما ً غير مباشر و قصديا ً تقريبا ً لتشفير ( الرموز) التي يمكن تحليلها بالارتباط مع تمثيلات ثقافية محددة. و هذا الزوج الدوري يُـقارن بموقف ثان ٍ: هو الموقف التأويلي.
إن الموقف النقدي هو تجاوز الموقف المدرسي - التفنيدي بينما الموقف التأويلي هو تجاوز للموقف التوثيقي – الرمزي. و بالطبع فإن المفاهيم القديمة لما هو نقدي ’critique‘ أو ما هو تأويلي ’hermeneutic‘ قد جرت إعادة التحقق منها كليا ً بطريقة مادية تاريخية بوساطة نظرية النشوء. و نعني بالنقدي قراءة من الدرجة الأولى، تلك التي تسلـِّم بوجود التوتر بين العلم و الأيديولوجيا في كل نتاج فكري، و هي لا تجهد نفسها بالبحث عن ما هو صادق و ما هو زائف أكثر من بحثها عن تجسيدات الصراع بين الفرضيات. و بالعكس، نعني بالتأويلي قراءة من الدرجة الثانية، تلك القراءة التي لا تبحث عن المعطيات أو الرموز... و لكن عن مفاتيح الواقع الاجتماعي التاريخي في النص. و الممر من الموقف النقدي ( الجدلي) إلى الموقف التأويلي ( المادي) هو الطريقة الشاملة التي اقترحتها نظرية النشوء.
إن البحث عن التناقضات هو إذن أحد الأهداف الرئيسية لنظرية النشوء. دعنا لا ننسى بأنه، بوصفها منهجا ً جدليا ً، فإن نظرية النشوء لا تعتد بوجهة النظر السلبية للتناقض لأن ما يملأ الفم من ملاحظات متكررة لكل أنماط الخطاب ترغب بأن تكون ’علمية‘. و كما يقرر الفكر الماركسي، فإنه لا ينبغي لنا أن ندهش ، عندما نبحث عن جوهر الأشياء، فنواجه تناقضات أكثر فأكثر... لأن التناقض هو جوهر الأشياء.
أول أنماط التناقض الذي ستبحث عنه نظرية النشوء هو التناقض داخل النظرية اللسانية. إذن يستطيع المرء أن يلاحظ واقعتين أساسيتين. الأولى، هي أن نظريات لسانية محددة تقدم نفسها بوصفها مستقلة أيديولوجيا ً و لكنها مع ذلك معتمدة على ما أسميه فلسفة ضمنية implicit philosophy ( لوريندوa1986: 8-22؛ و يناقش كراولي في الفصل الثاني المهاد الوضعي للسانيات التزامنية). و حتى الافتقار التام إلى الإطار النظري نفسه هو فلسفة ضمنية، ربما أنه ليس الأفضل[3] ( قارن النظرية الاجتماعية كما قدمتها كاميرون في الفصل الرابع). ثانيا ً، تقدم بعض النظريات المحددة نفسها بوصفها ملحقة كليا ً بنظام فلسفي و مع ذلك فهي أصيلة و مستقلة على نحو راسخ. و هذه في الغالب هي الحالة التي أدعوها بالاستراتيجيات المدرسية لوريندو a1986: 763) التي تكون وظيفية أو توليدية على السطح، و لكن الأمر مختلف تماما ً في الدراسة نفسها. و المسألة التي ينبغي أن تكون حاضرة في أذهاننا هي أن النظرية اللسانية تميل دائما ً إلى نفي ميراثها و نفسها. و آلية هذا النفي هي المفتاح الذي يأخذ بنا إلى مصدر النشوء.
في المستوى الثاني، يمكن أن تكون مجموعة التناقضات التي ينبغي البحث عنها هي تلك التي بين المؤسسات اللسانية كما تنعكس بوساطة ’ التناقضات النظرية‘. و المثال الجيد على مثل هذا البحث هو عمل كوست Coste (1987). في هذه الدراسة، يصف المؤلف النشوء الحالي لبنية تعليم الفرنسية بوصفها لغة أجنبية( و هو المتصل بجهاز الدولة الفرنسية) و النشوء الأقدم للسانيات( و هو المتصل بالجامعة الفرنسية). و هو أيضا ً يحلل من وجهة نظر اجتماعية- تاريخية صراع المدافعين عن الطرفين بين 1945 و 1975. هذه المرحلة قد اعتبرت لحظة تغيير مهم و قوي في دراسة و تعليم اللغة الفرنسية في فرنسا. بالنسبة للغة الفرنسية بوصفها لغة أجنبية، يتكلم كوست حول النشوء، بينما بالنسبة للسانيات الجامعية، يتكلم حول ’تغييرات عريضة‘. هنا يظهر تناقض معقد بين المداخل المختلفة.
اللسانيات التطبيقية يفسرها الكاتب على أنها منطقة للتماس و الانتقال، على أنها نوع من ’السطح البيني المضطرب‘ بين كيانين، و هذان الكيانان نفساهما مضطربان. و يوضح كوست بأن هذا يمكن أن يعطي دفعة لمحاولات التثبيت التي يمكن أن تفسر بوصفها رغبات لأخذ زمام السيطرة لكنها لن تكون ناجحة على الإطلاق. و حينئذ نؤخذ ببطء من الجانب النظري إلى الصراع الاجتماعي. إن للفرنسية بوصفها لغة أجنبية و اللسانيات وحدات داخلية متباينة. و دائما ً، استنادا ً إلى كوست تبدوا مجموعة المتخصصين في الفرنسية بوصفها لغة أجنبية تقريبا ً مثل مجموعة تلفزيون مشوشة، فهي مادة وسطية و ذات إثباتات آنية، مثل مجموعة المديرين. و تختلف الاهتمامات و التوجيهات بشكل واسع بين المجموعات الثانوية. و أيضا ً، في حالة اللسانيين الجامعيين، فإن تصنيفاتهم الأقل شمولية إلى حد ما( التي تميـِّز، مثلا ً، بين ’ المختصين بالفرنسية‘ و ’ المختصين باللغة الأجنبية‘، و بين المختصين باللغات ’الهندية الأوروبية‘، و ’ الوظيفيين‘) تكشف عن تنوع أكبر حول كيفية إدراك و فهم العلاقة بين اللسانيات و تعليم اللغات و ممارستها ( من BUSCILA 1988: 44-5).
و هناك نتائج منهجية متباينة لما ذكره كوست 1987. و التناقض الأكبر يوصف هنا على أنه مجموعة تناقضات أصغر، و يبدو الاستيعاب الأكثر شمولا ً لهذا النظام المعقـَّد بوصفه الخطوة الأولى المؤدية إلى مصدر اجتماعي تاريخي sociohistorical للنشوء. و يمكن الاقتباس من تشيرفيل بوصفه مثالا ً صادقا ً لما أعنيه بمصطلح النقد الجدلي dialectical critiqu. و كوست هو مثال طيب لما أسمَّيه بالتأويل المادي materialistic hermeneutics.
لقد بدأنا بالتناقضات الداخلية للنظرية، ثم التناقضات بين المجموعات الاجتماعية الممثـَلة بوساطة مناصريها و مناهجهم النظرية. و هذا يؤدي بنا إلى التناقضات بين النظرية اللسانية و الواقع التاريخي، كما يتجسد في عمل جوكو Jucquois (1989) في دراسته لمدرسة المقارنة comparativism.
يقول جوكو أن نشوء مدرسة المقارنة لا يمكن أن يحصل دون الإمكانية التاريخية للمقارنة، و لكن نظرية المقارنة ستتلاشى في نهاية المطاف حتى و إن استمرت هذه الإمكانيات في النمو. و من أجل أن يوضح فهم المقارنة اللسانية، يقترح الحاجة إلى البحث الواسع و العام لأنماط تجسد الموقف و العقلية المقارنين. و يلاحظ بعد ذلك أنهما ’ قد ظهرا تدريجيا ً تماما ً‘ في تاريخ العالم الغربي و تطورا فقط خلال الأزمنة الحديثة. و هو أيضا ً يضع في الاعتبار أن الحفريات في الاتجاه المقارن تكشف عن الشروط التي أدت إلى ظهورها و تطورها. و هو يدافع بأن هذه الشروط ترتبط ارتباطا ً وثيقا ً مع إدراك و استعمال اللغة في مجتمع بعينه، أعني في ’ديمقراطية‘ ( كذا، و ربما من الأفضل أن أقول ’ إمبريالية‘) فهي بالضرورة تتضمن إدراك شيء ما من نزعة جماعية غير قابلة للتخفيض التي هي نفسها ترتبط بطبيعة اللغة ذاتها و بالواقع الاجتماعي المعاصـر( من BUSCILA 1988: 49). و العناصـر المنهجية الأخيـرة التي أريد أن أذكرها هي إذن قد جرى تقديمها: السياق الفكري العام و مهاده الاجتماعي- التاريخي.
و لاختصار الإطار المنهجي الناتج من الفرضيات النظرية و أمثلة الدراسات التاريخية التي نوقشت تواً، أفترض النقاط الست الآتية في عملية التأريخ لنشوء ’النظرية‘ اللسانية:
(i) النقد الجدلي الداخلي I: المدخل غير المهتم بتدوين التاريخ إلى التناقضات النظرية الداخلية.
وصف ’صراع الأفكار‘ كما لوحظ داخل النظرية، البحث عن حركات التناقضات، و التغييرات، و النزعة الانتقائية،...الخ.
(ii) التأويل المادي I: المدخل غير التاريخاني إلى سياق النظرية الخارجي المباشر.
وصف يتضمن ’ من هو‘ لهذه النظرية. المدارس و الباحثين، العناصر الببليوغرافية،...الخ. تأويل المعلومات ’ضئيلة القيمة‘.
(iii) النقد الجدلي الداخلي II: وصف الأبعاد التفنيدية/ المدرسية و التوثيقية/ الرمزية. وصف ما يكشفه ’صراع الأفكار‘ في النظرية حول علاقاتها مع النظريات الأخرى. أي الأفكار (الأشخاص) في اتفاق أو تعارض مع ماذا أو من. من ( ماذا) يمكن اعتباره مقدما ً لمعلومات موثـقة ملموسة جيدة؛ و من (ماذا) يفسر و كيف.
(iv) التأويل المادي II: وصف الأفق الاجتماعي-الفكري.
وصف الأفق الأيديولوجي- العلمي للمرحلة التي نشأت فيها النظرية و تأثيرها على المدرسة التي تدافع عنها.
((V النقد الجدلي الداخلي III: تعيين الحدود الفكرية للنشوء.
وصف ما تتكلم النظرية حوله، و ماذا تخفي، و ماذا تنسى، و ما لا يمكنها أن تعرفه
مطلقا ً، ما تعرضه و ما تتكلم حوله لأننا ’ينبغي‘ أن نتكلم حوله. ما الذي كان قبل أن
أن تعطي( أو لا تعطي) تصوراتها. ما الذي سيأتي بعد ذلك مما سيكون( أو لا
يكون) لها تأثير عليه.
(VI) التأويل المادي III: عملية التأريخ.
على أساس من هذه المعطيات، وصف إمكانية/ ضرورة نشوء تلك النظرية بعينها، استنادا ً إلى وسائل و حدود اجتماعية تاريخية للمرحلة التاريخية موضع الدراسة.
في الختام، نستطيع القول بأن هناك نوعان من التاريخ: تاريخ الأفعال و تاريخ الصيرورات. و نشوء نظرية لسانية جديدة هو دائما ً ثمرة الأفعال و الصيرورات في المجتمع. و نحن لا نستطيع أن ننجز العمل التاريخي كله، و بوصفنا مؤرخين لعلوم اللغة، فنحن مجبرون على التركيز على النشوء، و مصادره، و آفاقه ، و حدوده. و إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن ما ندرسه هو ظاهرة جزئية فقط، مجرد جزء من المشكلة، سنرجع بالطبع إلى الخلف إلى إشكاليتنا الابتدائية: الواقع الجدلي لمسألة الاعتماد/ الاستقلال للسانيات و التاريخ. و سنبدأ حينئذ ٍ في فهم بأن التاريخ و اللسانيات بطيئان للغاية في تقديم ’ نتائج‘، و عملنا يمكن أن يكون فقط ...أبطأ.
ملاحظات المؤلف
1. قـُدِمَ هذا النص في كانون الأول 1988 في ملتقى NAAHoLS في جامعة تولين، نيو أورليانز. و أود أن أشكر السادة المذكورة أسماؤهم لمساعدتهم الثمينة: كارين والين ، ديفد ووكر و موريس بينشار من جامعة يورك، و لودميلا بوفيه من جامعة لافال، و جورج وولف من جامعة تولين، وأجنيس ليبو. و أود أن أقدم شكرا ً خاصا ً إلى تالبوت تايلور الذي قدم نقدا ً في الصميم من هذا العمل و ساعدني في تحوله إلى شيء يمكن أن يكون في متناول القراء الأنجلو- أمريكان.
2. في العام 1902، أوضح الأب أي. توجارد، في مقدمته لعمل مِّـيز( 1903) بأن مؤلف هذا المسرد كان يعمل عند حلول العام 1899 على مقالة عنوانها تاريخ المحرار. و استنادا ً إلى فقرة من رسالة مقتبسة في كتاب مـِّيز ( 1903: X-XI) فإن الهدف الرئيسي للمؤرخ، في الجزء الأول من هذا ’ التاريخ‘ للمحرار، كان أن يدحض مناقشات شخص ما من كابري زعم بأن غاليليو كان هو من اخترع المحرار. وقد عدَّ مَّـيز أن المخترع الحقيقي لهذه الأداة هو الطبيب سانتوريو من فينيسيا ( 1561-1636)، و للبرهنة على ذلك، يبدو أنه قد قام بعمل دراسة تأويلية معقدة جدا ً للمجلدات السبعة عشر من أعمال غاليليو. و من المهم ملاحظة أن ، و على الرغم من تحقيق نوع معين من ’ نزع الميثولوجيا‘ عن رمز تاريخي، فإن مثل هذا البحث يبدو شبيها ً أكثر بإقامة الدعوى حول عائدية التأليف منه إلى دراسة التاريخ. و من المهم أيضا ً أن نلاحظ بأن معرفة النشوء التاريخي لمنتج تقني مثـل المحرار في عصر النهضة الإيطالية لن تتغير جوهريا ً إذا ما عرفنا بأن الاسم الدقيق لمخترعه هو سانتوريو بدلا ً من غاليليو. هذا كان في القرن التاسع عشر، و لكن هل مؤرخو اللسانيات يعملون الأشياء على نحو مختلف جدا ً الآن؟
3. يصف تشيرفيل فعالية أستاذ المدرسة الفرنسية في القرن التاسع عشر على النحو الآتي: ( لم يكن النحو [ في القرن التاسع عشر] بالنسبة للمعلم شيئا ً أكثر من إجراء تربوي. و على هذه الصورة فهو دائما ً مستعد لتغيير نحوه إذا ما أقترح شخص ما طريقة أكثر كفاءة. و حتى أنه كان قادرا ً، إذا كان يمتلك قدرا ً من المخيلة، على إجراء بعض التغييرات و إعادة كتابة نحوه، أولا، ً للاستعمال الشخصي، مالئا ً دفاتر الملاحظات بكتابته الإردوازية اللطيفة. و هناك يمكن أن تتحقق كل شكوكه، و كل مخاوفه، و كل مكتشفاته التربوية. و إذا ما كان شخصا ً لديه قدر يسير من الطموح و رغب في التقديم لمنصب أستاذ في Ecole normale أو لمنصب مفتش التعليم، فربما يتمكن من طبعها و الإلحاح على الموظفين الأعلى منه مرتبة لتضمينه بين الكتب الوجيزة التي منحت تزكية سمة الحجة العلمية من قبل القسم.
و من الواضح أن دوافعه ليست من النوع التأملي، بما أن الاهتمام الأساسي للمعلم هو بالدرجة الأولى و لأقصى ما يمكن أن يتعلم طلابه الإملاء. إذا أنه على هذا يعتمد احتفاظه بمركزه الوظيفي، إذا كان في خدمة جماعة قروية، أو بارتقائه الوظيفي... .
إن دور الطلبة جوهري في هذه المواجهة التربوية أو الصراع الذي يقوم فيه المعلم بجعلهم يماثلون في كتابتهم المبادئ الأساسية للإملاء التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى التأسيس البطيء للنحو المدرسي الجديد. بعضهم يرى هذا بوضوح، مثل فانيير Vanier الذي كتب في مقدمة كتابه النحو العملي للمدارس الابتدائية: ’ هذا الكتاب الصغير هو ليس نتيجة ليال ٍ من العمل، و لا هو حصيلة تأمل واسع؛ إنه كان من إيحاء طلبتي...‘).
( تشيرفيل 1981: 97)
ملاحظات المترجم:
1. في تقديري إن تفسير الكاتب لمصطلح gnoseology بنظرية المعرفة هو تفسير غير موفق لأن ما يقابل مصطلح نظرية المعرفة في الإنجليزية هو epistemology. و لكنه قد استخدم المصطلح في سياق الدراسة للإشارة إلى المعرفة الحدسية أو العرفانية استخداما ً يوافق حاجة الحالة موضوع البحث.
2. يعدُّ القرن التاسع عشر قرن التاريخ و الأيديولوجيا، و لذلك فإن ظهور العامل التاريخي بوصفه عاملا ً مؤثرا ً في دراسة العلوم الإنسانية تحديدا ً قد صار ملحوظا ً ابتداء ً من هذه المرحلة التاريخية.
3. لأن اختيار عدم التنويه أو عدم تحديد الإطار النظري هو بالضرورة ذو بعد فكري و أيديولوجي بالضرورة و بالتالي فهو بعد فلسفي أيضا ً.
بول لوريندو
Paul Laurendeau
ترجمة: باقر جاسم محمد
مواضيع مماثلة
» تحليل الخطاب من اللسانيات إلى السيمائيات
» اللسانيات والتداولية(*) ترجمة: حمو الحاج ذهبية(**)
» التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية
» التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية
» منهج الأدب الحديث والمعاصر ـ فنون الشعر ـ
» اللسانيات والتداولية(*) ترجمة: حمو الحاج ذهبية(**)
» التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية
» التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية
» منهج الأدب الحديث والمعاصر ـ فنون الشعر ـ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى