اللسانيات والتداولية(*) ترجمة: حمو الحاج ذهبية(**)
صفحة 1 من اصل 1
اللسانيات والتداولية(*) ترجمة: حمو الحاج ذهبية(**)
جون سرفوني
اللسانيات والتداولية(*)
ترجمة: حمو الحاج ذهبية(**)
تحدثت علاقة اللسانيات بالتداولية بظهور أوستين وديكرو وبروندونر، فقد قدموا للغة مفهوما جديدا مرتبطا بالممارسة والاستعمال، ويستدعي الأمر في معالجتها أدوات إجرائية تدخل ضمن التحليل التداولي مثل: المتخاطبون، الضمائر، الزمان والمكان،...
1- أوستين والتداولية:
يمكننا الانطلاق من الفصل السابق لنطرح المشكل العام المتعلق بالعلاقات بين علم الدلالة اللساني والتداولية، فتتجلى النقطة الحاسمة في الوضع الذي نلحقه بالانجازية.
إن الإنجازية، بالنسبة لأوستين، تندرج في إطار اللغة، ضمن التواضعات التي تُكَوِّنُهَا، وانطلاقا من تلك التواضعات ترتبط القيم الإنجازية بمورفيم معين، بصفة معينة، ووحدة معجمية معينة.
فإذا لم تظهر القيم الإنجازية في الملفوظ، فسوف يتعلق الأمر بـ: «الاستعمال التواضعي، وبهذا المعنى بالذات يمكننا تفسيره بالفعل الإنشائي»، ويمكن بالتالي أن نطبق على الإنجازية صفتي الاصطلاح والتصريح.علىالعكس من ذلك نجد أن القيم التأثيرية المتغيرة لا تنتج عن تواضعات لسانية محضة، فهي مرتبطة بالميدان الضمني.
1-كلام العرب الفصحاء
إن هذا الاعتقاد الأوستيني يؤدي إلى تقسيم التداولية، فمن جانب، ومن خلال أحد مظاهرها، يمكن لدراسة الإنجازية أن تدمج في علم الدلالة اللساني، ومن جانب آخر، وباعتبارها دراسة للأفعال التأثيرية، فلا تستطيع أن تكون طرفا فيها. والنتيجة تكون ما يمكن تسميته بالتداولية الموسعة.
لهذا التوسع (الذي يجعل من التداولية مادة مستقلة من جهة، ومندمجة في مادة أخرى من جهة ثانية) شيء من الانحراف وغير المقبول والذي يفسر رفض اللسانيين والتداوليين تقبله، على الأقل تقبله كذلك.
سنقدم ثلاث وجهات نظر حول وضعية التداولية، التي تحول وتمنع التقسيم الناتج من نظرية أوستين.
2- وجهة نظر أسوالد ديكرو: (Oswald Ducrot)
أ- اللغة والعلاقات بين الذوات:
يستهل أوسوالد ديكرو كتابه “Dire et ne pas dire” برفض الاعتقاد الذي يقول أن اللغة تفيد التواصل بالمفهوم الضيق للمصطلح، أي إيصال المعلومات.
عندما أطرح سؤالا فإني أفعل شيئا ماعدا إخبار المتلقي برغبتي في المعرفة: إنني أجبره على الإجابة، أقدم له دورا في الوقت الذي أختارفيه دورا آخر لنفسي. الشيء ذاته عندما آمر، أعد، أرخص...الخ. تحتوي اللغة في ذاتها عند أوسوالد ديكرو «جداول من العلاقات بين الأشخاص، وأدوارا متعددة»، «جهازا من التواضعات والقوانين» التي تنظم «النقاش بين الأشخاص».
الأدوار التواضعية هذه ليست شيئا أخر سوى الإنجازية التي تحدث عنها أوستين.
ب- الإنجازية والافتراض:
فالإنجازية عند أوسوالد ديكرو لا تتحدّد في الأفعال التي يصفها الفيلسوف الإنجليزي، فهي تتضمن كذلك الافتراض الذي هو من الوسائل المقدمة من طرف اللغة للإجابة عن متطلبات التضمين التي يحتاجها المتخاطبون في عدّة حالات، وسيلة «للقول واللاقول». مثلا، من الوسائل التي أمتلكها للقول ولكن ضمنيا أنه بالنسبة إلي كمتلفظ الجملة التالية "سيأتي محمد" صحيحة، وهو التلفظ بأن "عمر يشك في مجيء محمد". من الناحية التصريحية تحدثت عن إحساس عمر إزاء هذا المجيء: إنه يعتقد، وهو ما يشكل في هذا الملفوظ ما يسمى بالمثبت. أما ضمنيا فتحدثت عن اعتقادي الخاص بهذا المجيء وهو ما يشكل المفترض.
يضع أوستين الافتراض من بين شروط استعمال الأفعال الإنشائية التي يجب أن تتحقق حتى لا تكون هناك خيبة أمل(1).
يعد الافتراض بالنسبة لأسوالد ديكرو فعلا كلاميا خاصا. فهو فعل مثل الإثبات، الاستفهام أو الأمر، لأنها تقوم بتعديل العلاقات بين الذوات المتخاطبة. يخلق الإلزامات و يؤسس الحقوق والواجبات ويعين الأدوار. تكمن خصوصية الافتراض في الطريقة التي يفرض بها على المخاطب إطارا لاستمرار الخطاب: يجبره على الفعل وكأن محتوى الافتراض حقيقة مؤكدة لا يمكن أن يعاد النظر فيها. وإذا وجد ربط، فهذا الأخير لا يمكن من حيث المبدأ أن يؤدى إلا على مستوى المثبت وليس على مستوى المفترض.
إذا ربط المخاطب الكلام على المفترض (مثل: ما الذي يجعلك تعتقد أن محمدا سيأتي؟) فإجابته تحمل شيئا غير لائق وغير مستساغ (مكروه). ففي المعارضة، وفي الموضع البسيط لمناقشة الافتراضات يشعربه كأنه تجاوز، وبالفعل فهي رفض لعالم الخطاب الذي يزعم المخاطب فرضه، فبدل أن نقيم ما قاله هذا الأخير، "قوله" هو الذي يطرح كقضية.
لهذ السبب يحتل الافتراض مكانة أساسية في التفكير في علاقة السلطة بالقول، حول الخطابات المسماة بـ"الإرهابية"، و حول "التواصل المؤقت"، وحول "لغة الخشب".(2)
بوضع الافتراض ضمن الإنجازية، يتخلى أوسوالد ديكرو عن التعريف الذي يربط بين الإنجازية والتصريح. إذ هو تعريف غير واضح بالمفهوم الأوستيني لـ «المصرّح بواسطة الفعل التأثيري» ما دمنا لا نستطيع القول: «أفترض أن محمدا سيأتي» مثلما نقول «أحذرك من هجوم الثور ».
نلاحظ، بالتالي، أن مصطلح "ضمني" المطبق على الافتراض لا يعني«عدم إيجاد وضع في الملفوظ» (بذلك في "عمر يشك في مجيء محمد"، الافتراض منقول بـ "يشك").
ج- الأقوال المضمرة:
انطلاقا مما ذكر يقابل الافتراض شكلا آخر للضمنية هو القول المضمر. هذا الأخير يستنتج من المعنى "الجانبي" ومن السياق بواسطة الأسلوب الخطابي (أي من الاستدلال(3)) بالاستعانة بقوانين الخطاب، أهمها قانون الإخبار وقانون الشمولية.(4)
من الأمثلة التي وظفها أوسوالد ديكرو(5) لتمثيل عمل قوانين الخطاب اللافتة: "مفتوح يوم الثلاثاء" المعلقة على باب محل، معناها الجانبي ليس كافيا إذا كان المحل واقعا في منطقة تكون فيها كل المحلات مفتوحة في ذلك اليوم، في هذه الحالة ليس له أية قيم إخبارية.
إن التخمين الموجود هنا لتقديم الخبر (قانون الإخبار) وإعطاء قدر ما نريده فيما يتعلق بأيام الافتتاح (قانون الشمولية)، يوجه القراء المعنيين إلى التأويل التالي: «مفتوح يوم الثلاثاء فقط».
يتمثل الأسلوب الخطابي الذي بواسطته نؤول ملفوظا يحتوي على أقوال مضمرة أولا في ملاحظة أن هذا الملفوظ على مستوى المعنى الجانبي يخترق معيارا تواصليا في مستوى معناه الجانبي وطبقا لمبدأ المشاركة نزعم أن المتكلم يقوم بهذا الاختراق لجعلنا نفهم أن المعيار قد احترم في مستوى آخر من المعنى، أو أنه لا يخترقه إلا لاحترام معيار آخر أكثر أهمية. في كل الأحوال ما يثير التأويل ليس السؤال «ماذا يقول المخاطب؟» ولكن السؤال: «في السياق الحالي، لماذا يقول المتكلم ما يقوله؟». إن التأويل يحمل استفهاما حول التلفظ وليس حول الملفوظ. إن التقابل بين شكلي الضمنية اللذين هما الافتراضات والأقوال المضمرة يمكن تلخيصه بما يلي: فعل الافتراض آني، سابق غير متفرع، بينما الفعل المحقق عن طريق القول المضمر فعل متفرع.(6)
د- الحجاج:
باتساع مجال الأفعال الإنجازية التي تنتمي إلى علم الدلالة اللساني، يوسع أسوالد ديكرو كذلك حقل "التداولية المنسجمة".
نشير في البداية إلى أن هذه الأخيرة تتسع في المراجع التي جاءت بعد "Dire et ne pas dire"، في دراسة الحجاج في اللغة. يركز الكتاب المعنون بـ“Les mots du discours” على الكلمات أو عبارات مثل: أجد أن، لكن، حتما، زد على... حيث الوظيفة الأولية حسب ديكرو هي خدمة التوجيه الحجاجي للملفوظات.
لكن استعمال هده الكلمات أو العبارات ليس بضروري حتى نتحدث عن الحجاج. نقرأ في مقال له صادر في 1979: "خلاصتنا أن التوجيه الحجاجي لازم لمعظم - على الأقل- الجمل: دلالتها تحتوي على توجيه مثل: «بتلفظنا لهذه الجملة نحن نحاجج في صالح استنتاج معين».(7)
تأتي هذه الخلاصة لإثراء الفكرة التي دافع عنها أسوالد ديكرو باستمرار، والتي تنظر إلى اللغة، عكس الصورة التي يقدمها سوسير، على أساس مجموعة من التواضعات التي تسمح بتفاعل الأشخاص، والتي بفضلها يكون بإمكانهم لعب وفرض الأدوار تعاونيا في اللعبة الكلامية.
3- وجهة نظر أ. بروندونر A. Berrendonner:
أ- «عندما لا يشكل القول فعلا»:
- نلاحظ أن هذا القول يشكل نتيجة معاكسة قام بروندونر بتوسيعها، فبالنسبة له لا يوجد أية قيمة تداولية تندرج ضمن إطار مدلول الكلمات ولا في بنية الجمل، فدلالتها الأولية تمثيلية محضة، بحيث أن كل قيمة فعل تكون متفرعة، ناتجة من التلاقي المحقق بالتلفظ بين القيم الوصفية وبين بعض الشروط السياقية الخاصة، فانطلاقا من هذا يمكن الاستغناء عن مفهوم الإنجازية.
فمثل هذا الاستغناء يفرض علينا بالخصوص أن نجعل للأفعال الإنشائية مجالا معينا حيث لن يعود المفهوم الأوستيني لها صالحا. بالنسبة لبرندونر الأفعال الإنشائية Actes performatifs لا توظف لأداء الفعل الذي تدل عليه، ولكن توظف لعدم تأديته. فهي تسمح بالاستبدال الفعلي للكلام كقولنا: «أوصي بنموذج الإلياذة لـ (س)»،فإني أستبدل إشارة تقديم ذلك الشيء بصيغة منطوقة تساوي تلك الإشارة.
إن عنوان الفصل الأساسي في كتاب “Eléments de pragmatique linguistique” يوضح الموقف المتبنَى إزاء أوستين، والعنوان هو «عندما لا يشكل القول فعلا».
ب- إعادة تحديد مفهوم الفعل:
لا ينفصل مفهوم الفعل، بالنسبة لبروندنر، عن مفهوم الإشارة،إذ لا يمكننا العمل دون تحريك الأيدي أو الأرجل أو عضوا آخر من الجسد، فالكلام إذن عكس العمل (لذلك يعاد الاعتبار للحدس الذي يبرز في الصيغ المألوفة من قبيل «ليس سوى كلمات»، «كفى كلاما يجب أن نبادر»).. الفعل الوحيد الذي نؤديه ونحن نتكلم هو «إيماءات صوتية وإيقاعية مبرزة لفعالية البنية التركيبية»(، بمعنى آخر، الفعل التلفظي، أي التلفظ بالمعنى الجانبي للمصطلح.
ج- شروط التأويل الإنشائي:
بصفة عامة، وبالنسبة للسؤال الذي لا يقبل الإجابة عنه بصفة مقنعة فيما يتعلق بشروط التأويل " الإنشائي " يقترح بروندونر إجابة فريدة: من بين هذه الشروط نجد غياب المرجع، الغياب الذي يفسر بالأفعال غير الملائمة.
- يعني برندونر بالأفعال غير الملائمة ما يلي:
.الأفعال المستحيلة التنفيذ مثل الضحك أثناء الغناء: «آه، أني أضحك لأنني أرى نفسي جميلة...».
.الأفعال التي تستغرق وقتا للتنفيذ مثل عقاب المجرم: يستبدل القاضي تأدية الفعل بالصيغة التالية: «أحكم عليك بالسجن المؤبد».
.الأفعال الغامضة مثل مصافحة الأيدي، فهي مستبدلة بشكل غير مبهم ويتمثل في "أحييك"، "أهنئك"، "مرحبا بك معنا"... وإذا قمنا بالمصافحة والتلفظ في آن واحد، فالملفوظ تكون له قيمة مزدوجة: وصفية وإنشائية.
إضافة إلى ذلك يجب أن تكون صلاحية مثل هذا الاستعمال مضمونة من قبل مؤسسة، لكن الأمر يتعلق بمؤسسة غير لغوية (قانون اللعبة، نظام قانوني، قانون التأدب...الخ).
د- المحايثة الكاملة:
خلاصة ذلك، يمكن القول أن معالجة الأفعال الإنشائية التي تقترحها هذه النظرية مثيرة، لكن يظهر أنها تغاضت عن بعض النقاط، مثل: كيف يمكن استخلاص من كل قيمة إنجازية أولية جملا استفهامية وطلبية؟ الحل الأول هو اعتبار الأولى معبّرة عن فضول المتكلم والثانية كحاجة لهذا الأخير، وانطلاقا من ذلك وبفضل قوانين الخطاب يستنتج المخاطَب أننا نطرح عليه سؤالا أو أننا نقدم له طلبا، ولكن الحجج التي يمكن وضعها في صالح هذه الخلاصة لا تزال هشة.
وبالتالي، لتبرير محاولته يطرح برندونر أهمية التلاعب. فالهدف الذي يرمي إليه بمحاولته فصل الإنجازية عن اللغة مصاغ بهذه العبارة: «إدماج الاعتقاد الضيق للغة (كنظام من الأدلة ذات الوظيفة التمثيلية) في نظرية أوسع هي التلفظ (كنظام شامل للتواصل)...»(9).
الهوامش:
1-حسب رأي أوستين، من بين شروط نجاح الإثبات في المثال التالي: "ملك فرنسا أصلع" تكون بوجود ملك لفرنسا بمعنى أنه مفترض الوجود المنقول بواسطة المقال يجعله صحيحا. وباعتبار أنه لا وجود (حاليا) لملك فرنسا، فالإثبات منعدم وغير مقبول.
2- عولجت كثيرا من هذه المواضيع في منتدى albi (5- 10 جويلية 1982) السلطة والقول (الأعمال المنشورة في 1983 تحت مسؤولية ج. موران G. Mourand من جامعة Toulouse).
3-نفس نمط الاستدلال الذي يسمح بتأويل: «هل بإمكانك أن تقدم لي الملح؟» كدعاء (Cf. supra, P. 114, n°. I).
4-يمكننا صياغتها بهذا الشكل 1- إذا كان التلفظ يهدف إلى الإخبار، لا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة إلا إذا كان المستمع لا يعرف أننا بصدد الإشارة إليه، ولا يمكن إخبار من هو على علم بالخبر (قانون الإخبار)، 2- يجب تقديم المعلومات إلى أقصى حد، أي أنه من بين المعلومات التي نملكها، يجب أن نقدم تلك التي نعتبرها أكثر أهمية بالنسبة للمتلقي (قانون الشمولية).
5- Dire et ne pas dire, PP. 136, 137
6-تطور فكر المؤلف في هذه النقطة في زمن لاحق. في الدراسة المسماة بـ "الافتراض والأقوال المضمرة" في“Stratégies discursives, PP. 33 – 43 بالانطلاق من ملاحظة مفادها أن الفعل الإنجازي مثل فعل الطلب يمكن أن يتحقق بطريق مباشرة (مثل: أغلق الباب؟) أو بصفة غير مباشرة عن طريق القول المضمر (مثل: هل يمكنك غلق الباب؟) فهو يتساءل إن كان هذا صحيحا بالنسبة لكل الأفعال الإنجازية يكون كذلك بالنسبة للافتراض لأنه جزء منها.
7-O. Ducrot, Les lois du discours, Langue française, n°. 43, P. 27.
8-Eléments de pragmatique linguistique, P. 81.
9-OP.cit, Page 30-31.
(*) Jean Cervoni, l'Enonciation, P.U.F. Paris 1987.
(**)أستاذة، جامعة تيزي وزو
[/size]
اللسانيات والتداولية(*)
ترجمة: حمو الحاج ذهبية(**)
تحدثت علاقة اللسانيات بالتداولية بظهور أوستين وديكرو وبروندونر، فقد قدموا للغة مفهوما جديدا مرتبطا بالممارسة والاستعمال، ويستدعي الأمر في معالجتها أدوات إجرائية تدخل ضمن التحليل التداولي مثل: المتخاطبون، الضمائر، الزمان والمكان،...
1- أوستين والتداولية:
يمكننا الانطلاق من الفصل السابق لنطرح المشكل العام المتعلق بالعلاقات بين علم الدلالة اللساني والتداولية، فتتجلى النقطة الحاسمة في الوضع الذي نلحقه بالانجازية.
إن الإنجازية، بالنسبة لأوستين، تندرج في إطار اللغة، ضمن التواضعات التي تُكَوِّنُهَا، وانطلاقا من تلك التواضعات ترتبط القيم الإنجازية بمورفيم معين، بصفة معينة، ووحدة معجمية معينة.
فإذا لم تظهر القيم الإنجازية في الملفوظ، فسوف يتعلق الأمر بـ: «الاستعمال التواضعي، وبهذا المعنى بالذات يمكننا تفسيره بالفعل الإنشائي»، ويمكن بالتالي أن نطبق على الإنجازية صفتي الاصطلاح والتصريح.علىالعكس من ذلك نجد أن القيم التأثيرية المتغيرة لا تنتج عن تواضعات لسانية محضة، فهي مرتبطة بالميدان الضمني.
1-كلام العرب الفصحاء
إن هذا الاعتقاد الأوستيني يؤدي إلى تقسيم التداولية، فمن جانب، ومن خلال أحد مظاهرها، يمكن لدراسة الإنجازية أن تدمج في علم الدلالة اللساني، ومن جانب آخر، وباعتبارها دراسة للأفعال التأثيرية، فلا تستطيع أن تكون طرفا فيها. والنتيجة تكون ما يمكن تسميته بالتداولية الموسعة.
لهذا التوسع (الذي يجعل من التداولية مادة مستقلة من جهة، ومندمجة في مادة أخرى من جهة ثانية) شيء من الانحراف وغير المقبول والذي يفسر رفض اللسانيين والتداوليين تقبله، على الأقل تقبله كذلك.
سنقدم ثلاث وجهات نظر حول وضعية التداولية، التي تحول وتمنع التقسيم الناتج من نظرية أوستين.
2- وجهة نظر أسوالد ديكرو: (Oswald Ducrot)
أ- اللغة والعلاقات بين الذوات:
يستهل أوسوالد ديكرو كتابه “Dire et ne pas dire” برفض الاعتقاد الذي يقول أن اللغة تفيد التواصل بالمفهوم الضيق للمصطلح، أي إيصال المعلومات.
عندما أطرح سؤالا فإني أفعل شيئا ماعدا إخبار المتلقي برغبتي في المعرفة: إنني أجبره على الإجابة، أقدم له دورا في الوقت الذي أختارفيه دورا آخر لنفسي. الشيء ذاته عندما آمر، أعد، أرخص...الخ. تحتوي اللغة في ذاتها عند أوسوالد ديكرو «جداول من العلاقات بين الأشخاص، وأدوارا متعددة»، «جهازا من التواضعات والقوانين» التي تنظم «النقاش بين الأشخاص».
الأدوار التواضعية هذه ليست شيئا أخر سوى الإنجازية التي تحدث عنها أوستين.
ب- الإنجازية والافتراض:
فالإنجازية عند أوسوالد ديكرو لا تتحدّد في الأفعال التي يصفها الفيلسوف الإنجليزي، فهي تتضمن كذلك الافتراض الذي هو من الوسائل المقدمة من طرف اللغة للإجابة عن متطلبات التضمين التي يحتاجها المتخاطبون في عدّة حالات، وسيلة «للقول واللاقول». مثلا، من الوسائل التي أمتلكها للقول ولكن ضمنيا أنه بالنسبة إلي كمتلفظ الجملة التالية "سيأتي محمد" صحيحة، وهو التلفظ بأن "عمر يشك في مجيء محمد". من الناحية التصريحية تحدثت عن إحساس عمر إزاء هذا المجيء: إنه يعتقد، وهو ما يشكل في هذا الملفوظ ما يسمى بالمثبت. أما ضمنيا فتحدثت عن اعتقادي الخاص بهذا المجيء وهو ما يشكل المفترض.
يضع أوستين الافتراض من بين شروط استعمال الأفعال الإنشائية التي يجب أن تتحقق حتى لا تكون هناك خيبة أمل(1).
يعد الافتراض بالنسبة لأسوالد ديكرو فعلا كلاميا خاصا. فهو فعل مثل الإثبات، الاستفهام أو الأمر، لأنها تقوم بتعديل العلاقات بين الذوات المتخاطبة. يخلق الإلزامات و يؤسس الحقوق والواجبات ويعين الأدوار. تكمن خصوصية الافتراض في الطريقة التي يفرض بها على المخاطب إطارا لاستمرار الخطاب: يجبره على الفعل وكأن محتوى الافتراض حقيقة مؤكدة لا يمكن أن يعاد النظر فيها. وإذا وجد ربط، فهذا الأخير لا يمكن من حيث المبدأ أن يؤدى إلا على مستوى المثبت وليس على مستوى المفترض.
إذا ربط المخاطب الكلام على المفترض (مثل: ما الذي يجعلك تعتقد أن محمدا سيأتي؟) فإجابته تحمل شيئا غير لائق وغير مستساغ (مكروه). ففي المعارضة، وفي الموضع البسيط لمناقشة الافتراضات يشعربه كأنه تجاوز، وبالفعل فهي رفض لعالم الخطاب الذي يزعم المخاطب فرضه، فبدل أن نقيم ما قاله هذا الأخير، "قوله" هو الذي يطرح كقضية.
لهذ السبب يحتل الافتراض مكانة أساسية في التفكير في علاقة السلطة بالقول، حول الخطابات المسماة بـ"الإرهابية"، و حول "التواصل المؤقت"، وحول "لغة الخشب".(2)
بوضع الافتراض ضمن الإنجازية، يتخلى أوسوالد ديكرو عن التعريف الذي يربط بين الإنجازية والتصريح. إذ هو تعريف غير واضح بالمفهوم الأوستيني لـ «المصرّح بواسطة الفعل التأثيري» ما دمنا لا نستطيع القول: «أفترض أن محمدا سيأتي» مثلما نقول «أحذرك من هجوم الثور ».
نلاحظ، بالتالي، أن مصطلح "ضمني" المطبق على الافتراض لا يعني«عدم إيجاد وضع في الملفوظ» (بذلك في "عمر يشك في مجيء محمد"، الافتراض منقول بـ "يشك").
ج- الأقوال المضمرة:
انطلاقا مما ذكر يقابل الافتراض شكلا آخر للضمنية هو القول المضمر. هذا الأخير يستنتج من المعنى "الجانبي" ومن السياق بواسطة الأسلوب الخطابي (أي من الاستدلال(3)) بالاستعانة بقوانين الخطاب، أهمها قانون الإخبار وقانون الشمولية.(4)
من الأمثلة التي وظفها أوسوالد ديكرو(5) لتمثيل عمل قوانين الخطاب اللافتة: "مفتوح يوم الثلاثاء" المعلقة على باب محل، معناها الجانبي ليس كافيا إذا كان المحل واقعا في منطقة تكون فيها كل المحلات مفتوحة في ذلك اليوم، في هذه الحالة ليس له أية قيم إخبارية.
إن التخمين الموجود هنا لتقديم الخبر (قانون الإخبار) وإعطاء قدر ما نريده فيما يتعلق بأيام الافتتاح (قانون الشمولية)، يوجه القراء المعنيين إلى التأويل التالي: «مفتوح يوم الثلاثاء فقط».
يتمثل الأسلوب الخطابي الذي بواسطته نؤول ملفوظا يحتوي على أقوال مضمرة أولا في ملاحظة أن هذا الملفوظ على مستوى المعنى الجانبي يخترق معيارا تواصليا في مستوى معناه الجانبي وطبقا لمبدأ المشاركة نزعم أن المتكلم يقوم بهذا الاختراق لجعلنا نفهم أن المعيار قد احترم في مستوى آخر من المعنى، أو أنه لا يخترقه إلا لاحترام معيار آخر أكثر أهمية. في كل الأحوال ما يثير التأويل ليس السؤال «ماذا يقول المخاطب؟» ولكن السؤال: «في السياق الحالي، لماذا يقول المتكلم ما يقوله؟». إن التأويل يحمل استفهاما حول التلفظ وليس حول الملفوظ. إن التقابل بين شكلي الضمنية اللذين هما الافتراضات والأقوال المضمرة يمكن تلخيصه بما يلي: فعل الافتراض آني، سابق غير متفرع، بينما الفعل المحقق عن طريق القول المضمر فعل متفرع.(6)
د- الحجاج:
باتساع مجال الأفعال الإنجازية التي تنتمي إلى علم الدلالة اللساني، يوسع أسوالد ديكرو كذلك حقل "التداولية المنسجمة".
نشير في البداية إلى أن هذه الأخيرة تتسع في المراجع التي جاءت بعد "Dire et ne pas dire"، في دراسة الحجاج في اللغة. يركز الكتاب المعنون بـ“Les mots du discours” على الكلمات أو عبارات مثل: أجد أن، لكن، حتما، زد على... حيث الوظيفة الأولية حسب ديكرو هي خدمة التوجيه الحجاجي للملفوظات.
لكن استعمال هده الكلمات أو العبارات ليس بضروري حتى نتحدث عن الحجاج. نقرأ في مقال له صادر في 1979: "خلاصتنا أن التوجيه الحجاجي لازم لمعظم - على الأقل- الجمل: دلالتها تحتوي على توجيه مثل: «بتلفظنا لهذه الجملة نحن نحاجج في صالح استنتاج معين».(7)
تأتي هذه الخلاصة لإثراء الفكرة التي دافع عنها أسوالد ديكرو باستمرار، والتي تنظر إلى اللغة، عكس الصورة التي يقدمها سوسير، على أساس مجموعة من التواضعات التي تسمح بتفاعل الأشخاص، والتي بفضلها يكون بإمكانهم لعب وفرض الأدوار تعاونيا في اللعبة الكلامية.
3- وجهة نظر أ. بروندونر A. Berrendonner:
أ- «عندما لا يشكل القول فعلا»:
- نلاحظ أن هذا القول يشكل نتيجة معاكسة قام بروندونر بتوسيعها، فبالنسبة له لا يوجد أية قيمة تداولية تندرج ضمن إطار مدلول الكلمات ولا في بنية الجمل، فدلالتها الأولية تمثيلية محضة، بحيث أن كل قيمة فعل تكون متفرعة، ناتجة من التلاقي المحقق بالتلفظ بين القيم الوصفية وبين بعض الشروط السياقية الخاصة، فانطلاقا من هذا يمكن الاستغناء عن مفهوم الإنجازية.
فمثل هذا الاستغناء يفرض علينا بالخصوص أن نجعل للأفعال الإنشائية مجالا معينا حيث لن يعود المفهوم الأوستيني لها صالحا. بالنسبة لبرندونر الأفعال الإنشائية Actes performatifs لا توظف لأداء الفعل الذي تدل عليه، ولكن توظف لعدم تأديته. فهي تسمح بالاستبدال الفعلي للكلام كقولنا: «أوصي بنموذج الإلياذة لـ (س)»،فإني أستبدل إشارة تقديم ذلك الشيء بصيغة منطوقة تساوي تلك الإشارة.
إن عنوان الفصل الأساسي في كتاب “Eléments de pragmatique linguistique” يوضح الموقف المتبنَى إزاء أوستين، والعنوان هو «عندما لا يشكل القول فعلا».
ب- إعادة تحديد مفهوم الفعل:
لا ينفصل مفهوم الفعل، بالنسبة لبروندنر، عن مفهوم الإشارة،إذ لا يمكننا العمل دون تحريك الأيدي أو الأرجل أو عضوا آخر من الجسد، فالكلام إذن عكس العمل (لذلك يعاد الاعتبار للحدس الذي يبرز في الصيغ المألوفة من قبيل «ليس سوى كلمات»، «كفى كلاما يجب أن نبادر»).. الفعل الوحيد الذي نؤديه ونحن نتكلم هو «إيماءات صوتية وإيقاعية مبرزة لفعالية البنية التركيبية»(، بمعنى آخر، الفعل التلفظي، أي التلفظ بالمعنى الجانبي للمصطلح.
ج- شروط التأويل الإنشائي:
بصفة عامة، وبالنسبة للسؤال الذي لا يقبل الإجابة عنه بصفة مقنعة فيما يتعلق بشروط التأويل " الإنشائي " يقترح بروندونر إجابة فريدة: من بين هذه الشروط نجد غياب المرجع، الغياب الذي يفسر بالأفعال غير الملائمة.
- يعني برندونر بالأفعال غير الملائمة ما يلي:
.الأفعال المستحيلة التنفيذ مثل الضحك أثناء الغناء: «آه، أني أضحك لأنني أرى نفسي جميلة...».
.الأفعال التي تستغرق وقتا للتنفيذ مثل عقاب المجرم: يستبدل القاضي تأدية الفعل بالصيغة التالية: «أحكم عليك بالسجن المؤبد».
.الأفعال الغامضة مثل مصافحة الأيدي، فهي مستبدلة بشكل غير مبهم ويتمثل في "أحييك"، "أهنئك"، "مرحبا بك معنا"... وإذا قمنا بالمصافحة والتلفظ في آن واحد، فالملفوظ تكون له قيمة مزدوجة: وصفية وإنشائية.
إضافة إلى ذلك يجب أن تكون صلاحية مثل هذا الاستعمال مضمونة من قبل مؤسسة، لكن الأمر يتعلق بمؤسسة غير لغوية (قانون اللعبة، نظام قانوني، قانون التأدب...الخ).
د- المحايثة الكاملة:
خلاصة ذلك، يمكن القول أن معالجة الأفعال الإنشائية التي تقترحها هذه النظرية مثيرة، لكن يظهر أنها تغاضت عن بعض النقاط، مثل: كيف يمكن استخلاص من كل قيمة إنجازية أولية جملا استفهامية وطلبية؟ الحل الأول هو اعتبار الأولى معبّرة عن فضول المتكلم والثانية كحاجة لهذا الأخير، وانطلاقا من ذلك وبفضل قوانين الخطاب يستنتج المخاطَب أننا نطرح عليه سؤالا أو أننا نقدم له طلبا، ولكن الحجج التي يمكن وضعها في صالح هذه الخلاصة لا تزال هشة.
وبالتالي، لتبرير محاولته يطرح برندونر أهمية التلاعب. فالهدف الذي يرمي إليه بمحاولته فصل الإنجازية عن اللغة مصاغ بهذه العبارة: «إدماج الاعتقاد الضيق للغة (كنظام من الأدلة ذات الوظيفة التمثيلية) في نظرية أوسع هي التلفظ (كنظام شامل للتواصل)...»(9).
الهوامش:
1-حسب رأي أوستين، من بين شروط نجاح الإثبات في المثال التالي: "ملك فرنسا أصلع" تكون بوجود ملك لفرنسا بمعنى أنه مفترض الوجود المنقول بواسطة المقال يجعله صحيحا. وباعتبار أنه لا وجود (حاليا) لملك فرنسا، فالإثبات منعدم وغير مقبول.
2- عولجت كثيرا من هذه المواضيع في منتدى albi (5- 10 جويلية 1982) السلطة والقول (الأعمال المنشورة في 1983 تحت مسؤولية ج. موران G. Mourand من جامعة Toulouse).
3-نفس نمط الاستدلال الذي يسمح بتأويل: «هل بإمكانك أن تقدم لي الملح؟» كدعاء (Cf. supra, P. 114, n°. I).
4-يمكننا صياغتها بهذا الشكل 1- إذا كان التلفظ يهدف إلى الإخبار، لا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة إلا إذا كان المستمع لا يعرف أننا بصدد الإشارة إليه، ولا يمكن إخبار من هو على علم بالخبر (قانون الإخبار)، 2- يجب تقديم المعلومات إلى أقصى حد، أي أنه من بين المعلومات التي نملكها، يجب أن نقدم تلك التي نعتبرها أكثر أهمية بالنسبة للمتلقي (قانون الشمولية).
5- Dire et ne pas dire, PP. 136, 137
6-تطور فكر المؤلف في هذه النقطة في زمن لاحق. في الدراسة المسماة بـ "الافتراض والأقوال المضمرة" في“Stratégies discursives, PP. 33 – 43 بالانطلاق من ملاحظة مفادها أن الفعل الإنجازي مثل فعل الطلب يمكن أن يتحقق بطريق مباشرة (مثل: أغلق الباب؟) أو بصفة غير مباشرة عن طريق القول المضمر (مثل: هل يمكنك غلق الباب؟) فهو يتساءل إن كان هذا صحيحا بالنسبة لكل الأفعال الإنجازية يكون كذلك بالنسبة للافتراض لأنه جزء منها.
7-O. Ducrot, Les lois du discours, Langue française, n°. 43, P. 27.
8-Eléments de pragmatique linguistique, P. 81.
9-OP.cit, Page 30-31.
(*) Jean Cervoni, l'Enonciation, P.U.F. Paris 1987.
(**)أستاذة، جامعة تيزي وزو
[/size]
مواضيع مماثلة
» بحث في تحليل الخطاب ولسانيات النص والتداولية
» عبد الرحمن الحاج صالح
» تحليل الخطاب من اللسانيات إلى السيمائيات
» نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
» عبد الرحمن الحاج صالح
» تحليل الخطاب من اللسانيات إلى السيمائيات
» نظرية النشوء: نحو منهج مادي تاريخي في تأريخ اللسانيات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى